التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بالكاد أعلى من صمتِ إيليا سليمان




شاهدتُ أمس، من عُمق حجري المنزلي، فيلم It Must Be Heaven. الفيلم الروائي (؟) الطويل الرابع للمخرج الفلسطيني، والذي أنتِج سنة 2019. شاهدته مُقرصنًا على موقع ستريمنغ. عشر سنوات بعد فيلمه الأخير، والأشهر ربما، "الزمن الباقي"، عاد ليصوّر فيلما هو شخصيته الرئيسية، بين ثلاثة مُدنٍ عاش فيها خلال حياته: الناصرة، باريس ونيويورك.
صامِتٌ لا يتكلّم خلال الفيلم الذي تجاوز الساعة والنصف من الزمن، يلبس سُترةً زرقاء صينية وشابو سعف ويضع نظارات بكادر داكن. شعره أبيض، يشربُ كأس العرق في الفرندا ببيت العائلة في الناصرة، ويواصل "تحمّل" جيرانه الفضوليين، الذين يسرقون الليمون من حديقته ويسكرون على البلكونات حيث يجلسون بالكلسونات لساعات.
بدا إيليا، في هذا الفيلم غير الروائي، حيث لا قصة ولا خطّ سرد فيه، بل فقط لوحات متتالية، أقول: بدا إيليا وكأنّه يُغلق ملفا فتحه في "الزمن الباقي" الذي صوّر فيه على ثلاث مراحل زمنية، قصّة والديه وقصّته في فلسطين: النكبة 1948، ما بعد النكسة 1967، والزمن الحاضر الألفينات. حيث نراه يدور في منزله بالناصرة ويتخلّص، لفائدة جمعية خيرية، من أشياء والدته المتوفاة، متعلّقاتها الطبية والكثير من الملابس داخل الكراتين. والدته مريضة السكري التي رافقته في "الزمن الباقي". ثم يُسافر إلى باريس حيث ينتظره فراغ الشوارع، لا نرى في هذه المدينة بشرا سوى النساء الجميلات اللواتي يجعلن رقبة إيليا تذهب يمينا ويسارا، ولكن أيضا عُمال النظافة والمشرّدين؛ وبينهما الشرطة. باريس حالة الطوارئ، بعد العمليات الإرهابية وباريس التي صارت كل شوارعها تُشبه ساعة الأحد صباحا. لا أحد في الشوارع سوى رجال شرطة يركبون segways (لوح التزلج الآلي) ويطاردون سارق وردّ بسخافة مراهقين يتسلون في الشارع. كتب أحدهم –ونحن اليوم في أزمة كورونا- أن باريس صارت تشبه فيلم إيليا سليمان، وأنه تنبّأ بتفريغه لشوارع المدينة وجعلها خالية سوى من الشرطة والدبابات، بما سيحدث لاحقا، أي اليوم، مع إجراءات الحجر المنزلي وحالة الطوارئ. لا أدري، لكني لست متفقا مع هذا الرأي الذي يوكِلُ للفنّان مُهمّة التنبّؤ بالمستقبل، أو استشعاره. صحيح أن إيليا سليمان، بتصويره لفراغ باريس ولنيويورك المُسلّحة (نرى مشهدا داخل سوبرماركت، حيث كل المدنيين يحملون أسلحة، مثلما يحملون حقائبهم، كبارا وصغارا، في صورة مُبالغ فيها –من حيث الشكل وليس من حيث المضمون- لتسليح المدنيين في أمريكا) صحيح أقول أنّه يُصوّر لنا أن لا جنّة فوق هذه الأرض، وأنّه قد تمّت فلسطنة العالم كله. فحتى من دون وجود احتلال إسرائيلي في باريس أو نيويورك، فالحال ليس بأفضل من الناصرة المحتلّة. ولكن يعني هذا بأن إيليا الذي كتب فيلمه قبل سنوات يتنبّأ بفراغ المدن في 2020؟ لا طبعا، بل هي رغبة النقّاد والمشاهدين/القرّاء في البحث عن بذور للواقع في الفن، حتى يمنحوا عبقرية غير ضرورية للمبدعين وفي نفس الوقت، يدفعون بالفن نحو مراتب النبوّة، كأنّ الفن لا يكفيه أن يبقى فنا. وأذكر هنا جملة للكاتب هيثم الورداني، من نص أطول عن المستقبل والفن والكارثة، حيث يقول: "والأعمال الأدبية الحقيقة تنبع عن ضرورة مُلحة لتحريك الواقع حركة صغيرة، على أمل أن يظهر بُعدٌ جديد لم يكن أحد يراه. ولعل المستقبل يكمن في هذه الحركة الصغيرة." لو عوّضنا كلمة "الأدبية" بـ"الفنية" سنقرأ نفس الشيء، وكما يشرح الورداني في نصّه، الأدب (والفن، ربما) يتعامل مع الواقع المركّب، ولا يمكنه أن يكتب المستقبل، لأن المستقبل يُقرأ ولا يُكتب.
شيء آخر شدّني في الفيلم أيضا، وهو الطريقة التي يُصوّر بها إيليا رجال الشرطة، سواء الإسرائيليين أو الفرنسيين أو الأمريكيين. دون أن يجعلهم يخرجون سلاحهم، يُدخلهم في الكادرات جماعة أو أزواجًا –لا يتواجدون أبدا كأفراد-، بأجسادهم الرياضية –ما عدا الأمريكيين السمان- وأسلحتهم، ويجعلهم يبدون كجماعة من الأغبياء والسُذّج. يُطاردون الأشباح والملائكة، وينشغلون باللهو بأشياء تافهة أو بتبديل نظّاراتهم أمام المرآة العاكسة. هذا كان واضحا مع العساكر الإسرائيليين في أفلامه السابقة، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها إيليا سليمان ليصوّر خارج فلسطين. هناك سخرية مريرة من حال رجل الشرطة اليوم، عسكري المُدن وسلاح السلطة، رجل الشرطة الذي يُشبه أخاه في كل مكان، فمهما اختلف البشر بين البلدان، سنجِدُ دائما بأن الشرطة تتشابه في كل مكان، بنفس العقليات ونفس التجهيزات والممارسات. لكن إيليا يختار أن يكون A.C.A.B بطريقته التراجيكوميكية، وبدقة يُحسد عليها. دون أن يجعل الشرطي يُطلق رصاصة واحدة.
هذه الدِقة ترافقنا طيلة الفيلم أيضا، وهي دِقة لا تحتاج إلى كلمات. فكما قُلت، إيليا صامت طيلة الفيلم. لا يتكلّم سوى مرّة واحدة. ليقول أربع كلمات. ينطقُ الفلسطينيون نُكَتهم وعُقَدهم فيردُّ إيليا ووجهه بالكاد يتغيّر. يتكلّم الفرنسيون، سواء الشرطي أو المنتج الذي يرفض تمويل أفلام المخرج الفلسطيني لأنها ليست فلسطينية، فيردُّ إيليا بنظرات صامتة. في أمريكا، يبقى صامتا أيضا، يقول كلماته الأربع، ويواصل صمته، أمام الشرطة وأمام صديقه اللبناني، وكذلك مع منتجة أفلام أمريكية يخبرها صديقه الممثل بأنّه: مخرج فلسطيني ولكنه يُخرج أفلام طريفة عن السلام في الشرق الأوسط، ولكنها لا تهتم.
أمام كل هذا، يبقى إيليا صامِتا. لا يردّ على تساؤلات النّاس، لا يردّ على طيبتهم ولا على قلّة أدبهم، ولا على سوء فهمهم ولا على تفسيرهم الخاطئ... نادا. يركُن إلى الصمت. أو لنقل يُواصل صمته، الذي بدأه في أفلامه السابقة. أفكّر أمام هذا الصّمت، في كل الأفراد الذين يرزحون تحت ثِقل جماعة كُبرى ترزحُ بدورها تحت أثقال أخرى كالوطنية والهوية، والذين يريدون اجتراح لغاتٍ جديدة للتعبير عن أنفسهم؛ "تكلّم بالعربية بل تكلّم بالفرنسية لا بل ستتكلّم بالأمازيغية لا لا ستتكلّم بالدارجة الجزائرية، فالدارجة لغة، لماذا ليست لغة كالعربية؟ من قال هذا؟ نحن أصلا لسنا عرب، بل نحن أمازيغ، لا طبعا نحن عرب، لا لا نحن أفارقة." والصمت؟ من يستعمله. الصمت الذي يُبحرُ فيه سليمان في أفلامه هو درسٌ فني عظيم. أمام اضطراب الألسنة وحُمّى الهويات اليوم، أمام صدئ وسائل الإنتاج الرمزية البالية وفورة وسائل التواصل الاجتماعي وديمقراطيتها من جهة أخرى: يُمكِن للصمت أن يكون حلاً جميلا. في الجزائر مثلا –وفي كل العالم كما أتصوّر- يرتبط الصمت بالظلم واستلاب الصوت والديكتاتورية إلخ الصامت هو المظلوم، هو جدّك مسلوب الصوت أمام المُستعمر، هكذا تنحازُ الجموع وراء جملة رديئة تنسبها –بالخطأ- للكاتب-الشهيد طاهر جاعوت، دون تصحيح تاريخي يردّها لصاحبها الأصلي وهو فلسطيني آخر، معين بسيسو- والتي تقول: "إن تكلمت ستموت وإن صمتت ستموت فتكلّم ومُت"، هكذا يقفزُ الجميع في مركب هذه الجملة حتى يغرق ولا يلتفتون أبدًا لمواضع أخرى انتصر فيها الصّمت، كعنوان المجموعة الشعرية الثانية لآنا غريكي (شاعرة جزائرية من أصل فرنسي، أنظُر ترجماتها العربية التي أنجزتها لميس سعيدي): بالكاد أعلى من الصّمت.
أعتذر عن هذا الفاصل الجزائري، والإسقاطات السريعة، ولنعُد لصمت إيليا الفلسطيني الطريف. فلا أتصوّر أبدا أن صمته كان سهلا، خاصة خلال كتابته لأفلامه، فإيليا مثالٌ جميل على السيناريست الكاتب لا السيناريست المؤلّف، ليس فقط لأنه يستلهم من أحداث وقصص عاشها أو سمع عنها ويحاول أن ينسجها بهدوء وعلى وقتٍ طويل، بل لأنّه "كاتبُ دفتر"، أي أنه يقضي سنوات طويلة يجمع مادته وملاحظاته ونُكته المريرة في دفاتره، ولا يغرف بسهولة (؟) من بحر التخييل والقصص المكتوبة سلفًا. فهو قد تلّقى اتهامات وتخوينات من بعض الفلسطينيين الذين لا يرون أنفسهم في أفلامه، ومن بعض الإسرائيليين ومؤسساتهم التي ترى أن هذا العربي الذي يحمل باسبورهم ويُشوّه تاريخهم، وأخيرا من طرف صُناع المهنة الذين يرون بأبوية أن قصصه لا تُشبه قصص الفلسطينيين أو أن قصص الفلسطينيين عليها أن تكون بهذه الطريقة وليس بتلك.
أتذكر هنا صديقة فلسطينية قالت لي بأن إيليا يًصوّر أفلامه "لنا" وليس "لهم". ولم أكُن موافقًا كثيرا على هذه الفكرة، ولا على ثنائية "نحن" و"هم"، لأني أرى أنّه يصوّر أفلامه "هو". وهو أمرٌ صعب عندما تحمل ثِقل المكان الذي جئت منه أو الجماعة التي تنتمي إليها. فدائما سيواجهك أحدهم: كيف تسمحُ لنفسك بممارسة الفن من أجل الفن بينما الناس تموت؟ لماذا لا تصوّر القتل في فيلمك؟ إلخ لكنّي أظن أن إيليا لم يأتِ من عدم، أي أنّ هنالك بعض المبدعين الفلسطينيين المجايلين له أو السابقين، الذي كتبوا وصوّروا الفلسطينيين بروحٍ غير شعاراتية بتاتا، بل وبعبقرية تجعل أعمالهم تُناقش كأعمال فنّية وليس كأعمال "فلسطينية". أذكر هنا الاسم الأكبر: الكاتب الكبير إميل حبيبي، صاحب الجملة البديعة والنُكتة الفظيعة، واحد من التوب ثري للروائيين العرب في قائمتي. ثم هناك من جيل أقرب لإيليا، وإن كانا أصغر سنا (حسب ما يخبرني به غوغل): علاء حليحل وعدنية شبلي. صحيح أنني أقارب بين سينمائي وكُتاب، ولكن هذا لا يهم كثيرًا ما دُمت لا أدّعي كتابة نقد سينمائي مُحكم، ويبدو أني طوّلت في التدوينة فلنعُد للموضوع. إذا، هناك علاء حليحل صاحب الكتابة الطريفة في قصصه ورواياته، والنكات الفلسطينية الفاجرة تماما مثل تلك التي نجدها في أفلام إيليا؛ ثم هناك كتابة عدنية شبلي الكئيبة والجميلة والمتقشفة-المتكلّفة في آن، سواء في تركيب الجملة أو في وصف الشخصيات ونفسياتها، وسأشرح هنا نقطة التقارب مع إيليا.
شخصيات عدنية، سواء في قصصها غير المنشورة في كتاب (تجدونها في الأنترنت في أعداد مجلة الكرمل) أو في رواياتها الثلاث: "مساس"، "كلنا بعيدون بذات المقدار عن الحب" (يمكنكم ملاحظة التنافر بين العنوانين وكم هما مناسبان لظرفنا الكوروني والتماسف الاجتماعي المفروض علينا، حيث أننا بعيدون بذات المقدار عن بعضنا ومن دون مساس... وهو بالمناسبة، هذا التباعد، حاضر بقوّة في فيلم إيليا، فهل تنبّأ به أيضا، يتساءل النُقّاد؟) وروايتها الأخيرة "تفصيل ثانوي"، في كل هذه الروايات صغيرة الحجم، نلتقي بشخصيات تُعاني من وطأة الحدود المفروضة من الاحتلال على الإقليم والفرد الفلسطيني، كل هذه الرقابة والقمع نشعرُ بها من لغة وأوصاف وجمل الشخصيات، بدقة متناهية –تُحسد عليها عدنية- تجعلنا نشعر ونحن نقرأ أن الحركات العصبية للشخصية أو الحكّة التي تشعر بها قد تلبّستنا نحن القراء. البطلة في "تفصيل ثانوي" تشكو طيلة الوقت من عدم قدرتها على تقييم المواقف والبشر والأسعار، تشكو من عدم قدرتها رغم سنها على التأقلم مع الوضع الاستثنائي للاحتلال، رغم أن الجميع من حولها يجد الأمر عاديا وقد دخل في الروتين اليومي للمُستَعْمَر. هنالك خلل في الوجود تُعاني منه شخصيات عدنية، تفاوتٌ بين السطح والداخل، يُنتجُ كهرباءً تمسّ القارئ. لكن أين إيليا في الموضوع؟ شخصيات إيليا، غير الرئيسية، تقتربُ من شخصيات عدنية غير الرئيسية أيضا، أي ببساطة: الفلسطينيين؛ والذين نراهم، ببساطة أيضا، بشرا كسائر البشر، لا أكثر ولا أقل، أي نعم محاطين بهالةٍ من الغرابة، كأيّ جسدٍ مرغوب ومنهوب ومحاصر، لكنهم بشرٌ عاديون بحُلوهم وخراهم. لكن ليس هذا فقط ما يجمع بين إيليا وعدنية، فالصورة –المرئية عند الأول والمكتوبة عند الثانية- تشتركُ في عدّة خصائص، فولعُ إيليا بصورة تناظرية تُقوِّي من لوحاتية كادراته السينمائية وولعه بتفاصيل ديكور المنازل سواء كانت تتقارب مع ديكورات وس أندرسن (الزمن الباقي) أو كانت تضاريس عادية لمناظر عمرانية وريفية فلسطينية، هذا الولع بالمناظر والديكورات المتقّشفة يقابله تقشّفٌ آخر عند شخصيات عدنية، هنالك دائماً شعور –وأتحمّل مسؤولية شعوري- أنّ هذه الشخصيات تلبس ثيابًا أصغر من مقاسها، أو هي بالكاد على مقاسها، وتركبُ سيارات صغيرة وتمشي في شوارع ممسوحة وضيّقة، والإقليم كُله محاصر ومحدود وصغير ومزدحم بالبشر والأشياء والعنف، وهذا بالتحديد ما نراه "يد إلهية" مثلا، سواء في ملابس الشخصيات أو أحجام ومسافات الأشياء والعمران. ولو نفخ البالونة الحمراء التي تحمل صورة عرفات في نهاية، لقلتُ أنّ كل ما في الفيلم ينحو نحو الضمور والتلاشي بدل الانتفاخ والتضخّم.

هناك تقشّف بصري أشعر به في أعمال إيليا سليمان وعدنية شبلي، يُقابله تكلّف شكلي في التعبير عن هذا التقّشف، وربما هذا التكلّف الذي لا يساعد كثيرا في إخفاء الصنعة لدى صانعين ماهرين مثل إيليا وعدنية، هو ما يجعلني أذهب بعيدا في مقارنتهما وليس فقط لأنّهما فلسطينيان. فبالنسبة لإيليا يمكنني ذِكر: تناظرية المشاهد، استعمال الألوان في المشاهد التاريخية، استعمال الرمزية في بعض النكتة حتى تُعطي نتيجة معاكسة للضحك (مثال: الوطن بشيكل والعرب ببلاش)، عدم الخوف من الكليشيه بل وتضخيمه (مثال: النساء الجميلات في باريس، الأسلحة في نيويورك، كل الفلسطينيين فضوليين أو هزليين)؛ وعند عدنية: الجُمل التقريرية، حيادية اللغة في الكثير من المواضع فتخلو من أي ذرّة شعرية بل وتنقلب لصفحات طويلة إلى لغة ذهنية جافّة، الوصف المتكلّف للكثير من الأشياء (مثال: مشهد وصف خزان الماء القائم مثل نملة عملاقة في "مساس"، أو كل أوصاف الطريق والإقليم في "تفصيل ثانوي")... وتجدرُ الإشارة أيضا إلى أن التكلّف عند الاثنين، ليس تكلّفا غنائيًا، فائضا، مترهّلا، بل هو تكلّف مينمالستي، يكادُ يكون تكلّفًا في التقّشف.
أتساءل أمام هذه الثنائية، التقشّف في المضمون والتكلّف في الشكل، هل هي أدوات للتحايل على الواقع المركّب والذي تستسهل كل الموجات في قراءته وتصويره وكتابته؟ هل هي وسائل للقفز على الشعاراتية والهروب من فخاخ الخطابات الوطنية ونقضيها، هل هي ثنائية للتحرّر من الثنائيات؟ ربما...
هروبًا من محاولاتي للتنظير، وعودةً لـ It Must Be Heaven، يُمكنني القول أن لغة إيليا سليمان مع هذا الفيلم بدأت تتضّحُ معالمها وخريطتها بشكلٍ أوضح. اللوحات أو الـ vignettes (الملصقات، القسائم إلخ) التي شكّل بها فيلمه، هذا الكولاج المتتالي يمنحنا فُسحةً للتساؤل والتعلّم دون لحظات ملل، ما عدا ذلك المشهد الذي تكرّر مرّتين للمرأة الفلسطينية التي تلبس الثوب وتمشي وسط الزيتون والصبّار، ذهابا وإيابا بشكل غير مفهوم، خاصة عند مُخرج يرفض الركون للصور النمطية والكليشيه ويفضّل تفجيرها أو مدّ خطّ الكليشيه إلى آخره حتى يلاقي الدرامي بالكوميدي، ماذا أراد أن يقول بذلك المشهد؟ لا شيء، غالبا، لأنه ظلّ صامتا.

ملاحظة: أفضّل ألاّ أفصِح عن الكلمات الأربع التي يقول إيليا في فيلمه، حتى لا أحرقها لمن لم يشاهد بعدُ.

تعليقات

  1. Je suis content de découvrir ton blog. La mise en forme du texte est catastrophique. Pour le lire, je suis obligé de l'exporter sur Word et d'en refaire la mise en forme.
    Merci de ne pas spoil les 4 mots ☺

    ردحذف
    الردود
    1. يعيشك كمال، شكّيت كاين مشكل من عندك... سقسيت خمسة ولا ستة قراء قالوا لي بلي النص راهو مليح ومشي مخلط، وقدرو يقراوه.

      حذف
  2. َ c'est fou quefou que depuis "le Temps qui reste" Elia Suleiman must carrément sorti de la tête.
    و صحيت كي فكرتني بيه يا زح.
    Du coup, avant de lire ton billet, j'ai chercher le film (c'est con parce-que j'aurais pu te le demander tout simplement).. Et je l'ai vu... Et j'ai pas du tout regretté, ça m'a rappelé 24 FRAMES, (tout différence de ton et de forme et de proportion gardé).
    يا شاف صحيت على الساعة و ثنين و ثلاثين دقيقة الي هديتهالنا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي