التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بلا شاهد


(كُتِب هذا النص ليُرافق صور مشروع EXILE للفنان عبدو شنّان)

أول مرة حسّيت بكلمة "ديكور" كان في أستوديو التصوير الكائن بالعمارة رقم 15 في حي باش جراح بالعاصمة الجزائر. كنت صغير، ربما أربع سنين أو خمسة، وكنت أذهب كل عيد فِطر مع أمي لأخذ صورة. كان يحدث أن نذهب خارج أيام العيد أيضا، مثلا يوم الختان أو خلال التحضير للالتحاق بالسنة الأولى ابتدائي.

أدخل الأستوديو فأشمُّ تلك الرائحة الكيميائية الغريبة. هناك مدخل المحل، ثم منطقة عبور ضيّقة، انتصبت فيها آلة ضخمة لاستخراج الصور، ربما بحجم ثلاثة ثلاجات، وأمامها باب صغير (ربما كان الغرفة الحمراء) وفي الأخير نجدُ الأستوديو بكل زينته وديكوره الكيتش.

ككل استوديوهات التصوير خلال عِقد التسعينات، لم يَخلُ الأستوديو من ورق الحائط المحمّل بالزهور والورود بشكلٍ يجعلك تتخيّل أنك عالقٌ وسط حديقة إنجليزية. لكن على الحائط المجاور امتدَّ رملٌ أبيض نحو مياه زرقاء مُغرية، والمشهدُ مُحاط بنخيل استوائي نحيل الجذع. الأرضية كانت خضراء، مثل بساط طاولة بلياردو، وفوقها وقفتُ منذ كان سنّي لا يتجاوز العام، حيث أني أملك صورة أقفُ فيها بالكاد على الأرضية الخضراء وعلى وجهي نظرةُ فزع. وفي كل هذه المرّات، وطيلة أزيد من عشر سنوات، كُنتُ أقفُ بنظرة الفزع أو الرهبة أو الملل أو الابتسامة المُصطنعة أو الابتسامة الحقيقية، أمام عدسة عمّي الصادق... المُصوّر.

الصادق طويل القامة، نحيل بشكل يجعله يظهر كأنّ ظهره محنِي قليلا، شعره رمادي وممشوط للخلف، دائما ما يلبس تلك القُمصان التي ينسبونها للحطابين في كندا، قماش صوفي ومخطّط بالمربعات، حمراء وسوداء، قهوية وسوداء، خضراء وسوداء إلخ حذاءه أيضا –حسب ما أذكر- كان حذاء حطابين أو عاملين عموما. حذاء أسود ثقيل.

لم أكن ألتقي الصادق خلال مواعيد التصوير فقط، بل تقريبا كل يوم، بما أن محلّه كان يقع أسفل العمارة المجاورة لعمارتنا، وجنبَ محل المواد الغذائية العامة الذي نقصده كل يوم. صوته كان معدنيًا قليلا، كأنه يخرج في منطقة بين الحنجرة والأنف، لم يكن يتكلّم بأنفه تحديدًا، لا. أمّا أنفه فكان على مَقاس وجهه وجسمه، كبيرًا ولكنه منحوت بطاقَتَينِ واسعتين وعظمٍ بارزٍ دون انحناء مثل أنوفِ أغلب المنحدرين من منطقة القبائل.

أذكر أيضا أنني كلما التقيته مع والدي، أو مع أولاد الجيران، كان يمدُّ يده الكبيرة إلى رؤوسنا –نحن الأطفال- ويُمسِّدُ على شعرنا ثم يُمسك بأنوفنا المُدوّرة الصغيرة ويبقى يُردّد ما معناه "هذه الأنوف ! يجبُ أن تستقيم ولا تبقى مدوّرة مثل كرة صغيرة هكذا".

الوقوف أمام عدسة الصادق ووجوده الدائم في الحي، لم يكونا السببان الوحيدان ليصير شخصية محورية في عالم الطفل الذي كُنته، بل أيضاً لأنه كان –وهو حال كل المصوّرين في القرن الماضي وحتى بداية الألفية- يعرف تفاصيل وخبايا العائلات من خلال تحميض واستخراج صورهم، كلّما حملوا له فيلمَ تصوير جديد. يعني أنه كان حافظ سر وشاهد على حياة مئات العائلات.

فمثلا، كان أخي مهووسًأ بآلات التصوير التي تُستعمل مرة واحدة، ويصوّر الجميع من دون مناسبة، ولأن بقية أفراد العائلة كانوا يرفضون –في الغالب- أخذ صور على غفلة، دون استعداد ولا زينة، انصبَّ اهتمام أخي عليّ فقط، أنا ابن الخمس أو الست سنوات. صورة في المرحاض. صورة وأنا نائم. صورة وأنا أستيقظ. صورة في الملعب. صورة فوق السيارة. صورة داخل السيارة. صورة بالشورت. صورة مع الهاتف. صورة عند الحلاق. صورة في المطبخ.

كل صوري كطفل، وكل صور العائلة، وبقيّة عائلات الحي، كانت تدخل وتخرج أستوديو الصادق.

لم أكن أعرف عن الصادق الكثير، فقط أنه يسكن وسط العاصمة، وأن له ابنًا في العشرينات من عمره، ضخم الجثة ولا يساعده في المحل، بالإضافة إلى توأمين مصابان بتخلّف ذهني، ولد وبنت، حسب ما سمعت من والدي ذات يوم.

تركتْ عائلتي حي باش جراح سنة 2004، دون أن تبيع الشقة، وسكَنا في أقصى شرق العاصمة، على بُعد 29 كلم بالتحديد. وبعد سنوات قليلة، ووسط غُربتنا الجديدة في الضاحية الشرقية، سمعنا أن الصادق قد أغلق محلّه وباع شقته في العاصمة واشترى أرضًا في منطقة قريبة من بيتنا الجديد، لكنها أبعد، خارج العاصمة وفي مكان أقرب للريف منه للمدينة.

كان قد خرج طلبًا لبيتٍ أوسع، وهربًا من ضيق شُقق المدينة، مثل كل العائلات التي تركت العاصمة. ولكن أيضا لأن مهنة المُصوّر ما عادت مُربحة بعد انتشار الهواتف النقّالة المزوّدة بالكاميرا ولكن أيضا بسبب تغيّر مهنة المصوّر الذي ما عاد في حاجة لآلة ضخمة كي يطبع صوره. أفكّر اليوم أنه لم يتأقلم ربما مع شروط المهنة الجديدة، وربما لم يتقبّل استعمال كاميرا رقمية تطبع الصور على طابعة حاسوب صغيرة... من يدري.

ثم نسيتُ ورق الحائط الإنجليزي، الملوّن بالأخضر والأحمر والأصفر، وكل الديكور الخانق التسعيني، الكراسي الخشبية الصغيرة والمغلّفة بصوف الخرفان ليجلس فوقها الأطفال الصغار، والدراجات البلاستيكية ثلاثية العجلات وأيضا تلك المحابس السوداء التي تحمل ورودا بلاستيكية.

تخلّص المصوّرون من كل هذا، وصارت استوديوهاتهم أكثر إضاءة وأقل زحمة. صرتُ تلميذا في المتوسطة ثم الثانوية، ولم أعد أطلب سوى خلفيات موحّدة اللون لأجل صور التسجيل المدرسي، أو خلفيات بيضاء حيادية لاستخراج بطاقة التعريف وجواز السفر. أما صور الذكريات والعائلة والعطلة فصرتُ آخذها بالكاميرات الرقمية الصغيرة، التي اشترتها كل العائلات وقتها، ثم أُفرِغُها على الحاسوب دون أن أذهب إلى المصوّر لاستخراج الصور. تحوّلت الذكريات من الورق إلى الرقمي وجعلت مُصوّرا كالصادق يُهاجر ثلاثين كيلومترا خارج العاصمة ليبدأ حياة جديدة.

حياة الصادق الجديدة لم أشهد عليها سوى مرّة واحدة، عندما ذهبتُ مع أخي لزيارته. يسكن في منطقة اسمها خروبة، في ولاية بومرداس، منطقة جبلية قليلا، لأني أتذكر السير في طريق باتجاهين ولا ديكور حولي سوى المزارع وجبال بوزقزة تسدُّ الأفق. وجدنا المنزل الجديد، صغير ولم يكتمل بناءه كأغلب منازل الحي، على قارعة هذه الطريق. وتحت المنزل وجدنا محلا صغيرا. افتتَحَ "تجارة صغيرة" لبيع المواد الغذائية، كما يطمحُ كل المتقاعدون النازحون من العاصمة إلى ضاحيتها الشرقية البعيدة. هنالك جيلٌ كامل مثل الصادق خرج من العاصمة، كل واحد وأسبابه طبعا لكنهم اشتركوا في تصوّر أن المدينة ستضيق بكل هؤلاء البشر وستنزح موجات كبيرة من العمران والبشر إلى الضاحية الشرقية التي يمرّ بها القطار، فقرّروا هم أن يستبقوها وينصبوا خيامهم في انتظار وصولها. لكنهم أخطئوا في غالب الأحيان، خاصة أولئك الذين ابتعدوا كثيرا نحو الضواحي الريفية، لأن الأمواج لم تصل ولم تبتعد أكثر من كيلومترات قليلة عن مركز المدينة، وغالبًا في اتجاهات معاكسة لجهة الشرق.

بعد تلك الزيارة الوحيدة، والتي وجدنا فيها الصادق يجلس مع ولده أمام رجل يُحاول إصلاح الثلاجة القديمة التي اشتروها لتبريد المواد الغذائية في المحل الصغير والمظلم، لم ألتقِ بالرجل الذي صنع صور طفولتي سوى مرتين، وكلاهما على قارعة الطريق في بلدة الرغاية. في المرة الأولى لم أعرف من هو الرجل الذي يركب سيارة ريتمو بيضاء متهالكة ويُشير لي بيده كي أركب معه، قبل أن ييأس ويواصل مسيره، أما المرّة الثانية فكانت عندما عرفته وركبت معه لأجد نفسي أمام رجل عجوز ابْيَّضَ شعره وجحظت عيناه الواسعتان بسبب نُحول وجهه. الصادق فقد ابتسامته وصار يتعثّر في الكلام، ويرسمُ على وجهه ملامح منقبضة تحت نظرة قلقة. كانت رُكبتاه تخبطان في عجلة القيادة، لاحظتُ أنه حافظ على حذاءه القديم وسروال الجينز الحائل. شعرتُ أنه شخصٌ آخر، كأنه انحرف عن مسار شيخوخته أو كما يقول الفرنسيون "شاخ بطريقة سيئة".

لاحقا عندما أخبرتُ والدي عن اللقاء، قال لي أن الصادق واجه مشاكلا في حيّه الجديد، خاصة بسبب عدم تأقلم التوأم مع الحياة هناك وانقطاعهما عن المدارس الخاصة التي كانا يرتادنها، ثم أضاف أن "تجارته الصغيرة" لم تنجح فعلا بسبب إهمال ولده.

كان الصادق وحيدًا في ضاحيته الريفية البعيدة، بعد كل تلك السنوات من لعب دور الشاهد على حياة آلاف البشر. وحيدًا وبلا شاهِد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي