يوميات سبتمبر/ خريف 2021 -
منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها، للبنات.
في سبتمبر ودّعنا الجميع، البعض زارنا وقضى الليلة معنا، البعض الآخر مرّ لإلقاء السلام، يجب القول أن البلد خلال العامين الأخيرين شهد إغلاقا غير مسبوق بسبب الحجر السياسي الذي تبع الوباء. في الشهور الأخيرة فقط بدأ الناس يدخلون ويخرجون، بأعداد قليلة.
تحدّثت مع صديقة قطعت البحر عكسيا منذ سنوات وتعيش هنا، أخبرتني أن السؤال أزعجها.. سؤال الناس لها مضاعف "لماذا رجعتِ؟ متى ستعودين؟"، اتفقنا أنّ النّاس يرحلون لألف سبب وسبب، ومن حقهم ذلك، لكنهم -وكالعادة في بلادنا- يُعلّقون كل الأسباب على ظهر "البلاد".. البعض يشعر بالكره والبعض الآخر بالذنب.. وجميع هؤلاء -زِد عليهم من بقوا مرغمين أو راغبين- يشتركون في المرارة. كيف يعيش الإنسان دون مرارة؟ هل يكون دور المرّارة، مثلا، تصفية جسم الإنسان من المرارة؟ يا ريت. وسط المكالمة قرأتُ عليها قصيدة "المدينة" لقسطنطين كفافي.. "لن تجد بلدا آخر، لن تجد ضفّة أخرى / ستطاردك هذه المدينة أينما حللت"... وعندما قرأتُ اسم الشاعر، تذكّرتْ أنها قرأت مجموعة أشعاره في مكتبة جامعتها القديمة التي تُطلُّ على ضفّة بحر بعيدة.
الخريف يتردّد في الخُطو نحونا، الفواكه الصيفية تنقرض واحدة تلو الأخرى، موسم فواكه الشتاء لم يدخل بعد. نحن ما بين بين، بعض الأصدقاء رحلوا، وآخرون عادوا مسرعين بسبب مرض أهاليهم، وأنا مثل شرطي مرور في منطقة الحاميز على الثامنة صباحا.
يوميات أكتوبر 2021
صباح مُشمس في ضاحية الرغاية، حركة السير سلِسة خارج وسط البلدة. أتوقف أمام محل المزابي لشراء ملصقات "ممنوع التوقف" لأن الدار اللي قدامنا حولوها إلى عيادة وصار الناس يركنون سياراتهم أمام دارنا وكلما نريد إخراج السيارة نجدهم في وجوهنا. يغيبُ البائع المزابي بضع ثواني، وأجد شيخا يلبس كمامة وقميصا مربعات أحمر. يُعاين الشيخ بعض الحطب الذي يؤطر الأبواب، الواحدة تسوى 450 دينار.. يتأفّف ويُشهِدني على ذلك؛ ثم يقول:
- هذي حطبة شوف شحال تسوى!
-.... (صمت)
- أنت صغير ما تشفاش على يوغسلافيا، يقول "لا يوغوسلافي".
-... (صمت)
- ما بقاتش قدرة شرائية، راني نلعبو في لا توش (خط تماس) الفقر.. الدولة راهي تطبع ف الدراهم.. وما كانش توازن بين الثروات وكمية الأموال في السوق..
- ... (صمت)
- تشفى على يوغسلافيا؟
- أنا صغير ما نشفاش..
- كانوا يروحو بشكارة دراهم حتى يقضوا في السوق.. أنا نشفى..
أشيرُ إلى الحي الذي خلفه، والذي بنته الدولة لعمال الصوناكوم (الواقعة في المنطقة الصناعية القريبة):
- كنت تسكن هنا الحاج؟
- إيه كنت هنا.. حتى حنا عشناها، الشهرية ما كانتش تكفي واليوم لانتريت (مرتب التقاعد) ما يكفيش.. ولكن حنا كبرنا خلاص، أنتوما اللي راح تعيشوها اليوم..
- آه احنا والله غير احنا..
- ربي معاكم
- آمين آمين..
يتابع المزابي الحوار في صمت، أسأله عن الملصقات فيقول أنها خلاصت.. ينظر إلي الحاج الذي كان على وشك المُغادرة ويسألني:
- عندك الناس يجيبو طونوبيلاتهم قدام دارك؟
- إيه..
- تسمع رايي.. ردها باركينغ، الوقت راه صعيب.. ودير شوية دراهم.. قدام دارك واحد ما يسالك.
تعليقات
إرسال تعليق