التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي




                                                             (خريطة الإدريسي)
                                                                    
أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين.



على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي فاشل. كُلّهم ضُبّاط أنزلوا الدبّابات ليصلوا إلى ميكروفون الإذاعة. نحن لا تهمّنا الدبّابة ولا الميكروفون، لكن ستجدوننا حتما نرشو حارس مبنى الإذاعة ليقطع تيّار الكهرباء. على الأرض يعيش البشر، ومن هناك يجب أن تنطلق حكاياتهم، أفقية على طول الطرقات المُسفلتة والمساحات الشاسعة. هكذا يكون الأدب.



على الأدب أن يكون ضدّ اقتصاد الإنتاج وضدّ اقتصاد الانتباه. يمكنه أن يستفيد من هذا الاقتصاد لكنّه لا يخدمه. نرفض أن يكون أدبنا سلعة تباع في التخفيضات أو منتجًا تتغذّى به الخوارزميات لشدّ انتباه البشر بلا انقطاع. علينا التوغل خلف هذه الحصون وفيرَسَةُ الخوارزميات.



الجزائر، أو المغرب الأوسط، بحدودها الشاسعة هي قارة صغيرة، وتعريف القارة هو أنها تضمّ عددا من البلدان، طبعا يُمكن أن يُقرأ هذا الكلام على أنّه تحريض انفصالي، ولكنّه ليس كذلك... ليس بسبب نسبةٍ عالية من الوطنية في الدم، بل لأننا ضدّ الحدود الشائكة والمحمية بالسلاح. نحن مع الحدود اللامرئية، تلك التي تُرسمُ بالبول على التراب وبالطباشير على الإسفلت وبالحبر على الورق. على الكتّاب أن يتحرّروا من يعقوبية الدولة، عليهم أن يقطعوا أذيال ورأس الأخطبوط في نصوصهم، عليهم أن يرسموا أقاليمهم على الورق، وبالحبر، عليهم أن يُشيّدوا مراكز وهوامش تخصّهم، في كل ركن وفي شارع.



لا تهمّنا الوردة في الحقل بقدر ما ندرسُ بعنايةٍ الوردة المرسومة على القماش القديم، تلك هي الوردة الناجية، التي اختارتها أيدي النسّاجين – السابقون الذين نقطفُ زرعهم من على القماش ونسيج الأكلِمة والزرابي الثقيلة.



الوطنية هي إرثُ العاجزين، كما التدين هو إرثُ الحائرين، لا ضير فيهما ما لم يتجاوزا حدود التماسُف الاجتماعي. نحن نكتُب لأنّ علينا امتلاك إقليمنا، المُمتدّ من حومات سكننا إلى الصحارى البعيدة في الجنوب. نحن بشرٌ أولا، لكننا لسنا مواطنين عالميين، تسقطُ الحدود والتأشيرات والحكومات والشركات العابرة للقارات، ويسقط معهم اليمين واليسار وكل من يُوازن كرسي السلطان. إذا كُنّا نرفض شوفينية اليمين واستمناءه الدائم على جسدِ التاريخ، فنحن بالتأكيد نرفض شعبوية يسار السلطة والسيادة الوطنية الذي يعتبر الأدب بوقًا لأوجاع البشر دون أن يحرّك ترمته حتى لا يتوجّعوا. نحن نرفض الأسواق، سواء أكانت لبيع النشوة أم الحزن.



نحن لا نؤمن بالقطيعة، ولا نستعمل الكلمة ولا مقابلها الفرنسي RUPTURE ولا حرف الـ R، الذي يتكرّر، ولا نُطقه مُدحرجًا كما يفعل قُدامى جبهة التحرير، وعموم الجزائريين من الأجيال السابقة عند حديثهم بالفرنسية، ليتمايزوا عن الفرنسيين. نحن نؤمن بالتراكم لا بالهدم. البناء وحده من يمنح الفرصة لرؤية البحر، ولو من بعيد.



نحن لسنا مهووسين بالقطيعة ولا بقتل الأب، المهووسون وحدهم من يحنّون للحبل السري ويصيرون آباء سيئين في كبرهم. نحن نؤمن أنّ الآباء يبقون في الشاطئ. لذلك نحن مع الابتعاد عن الآباء. الآباء الخارجين من مراكز الشرطة والداخلين للمساجد.



نحن نُؤمِنُ أن على الجُثث والأموات أن يغادروا ويدفنوا ليتركوا مساحة للأحياء، حتى وإن رفض الأحياء ذلك. من يُضاجع الموتى ويتبرّكُ بهم، هو ميت. من يُطوِّقُ الجُثث بالشموع ويدّعي أن الأسلاف يزدادون ضراوة، ميّت. من يظنُّ أنّه خان الأسلاف، ميّت. من يخاف من ضوء النهار ويفضّل ظلام الأمس، ميّت. من يُقدّس الأسلاف، ميّت. الحيّ وحده من يعيشُ يومه لغده، ويؤمن أن الأسلاف يضحكون من دوام ذكراهم فيه.



نحن نحتقر كلمة "طابوهات"، وأي أدب يريد كسرها هو في الحقيقة لا يكسر سوى الماء. الجنس والدين والسياسة هي محاور في الحياة، والأدب موضوعه الحياة –ما قبلها وما بعدها- ومن ينزع عن الحياة محاورها ويريد عقد مؤتمرات حول "الأدب والسياسة" وما شابه من عناوين غبية، هو في الحقيقة يريد قيادة سيارة بعد أن نزع عجلاتها.



الأدب يُكتَبُ بالناس ومع الناس. الأدب، على هذه الخريطة، لم يعرف بعدُ ورقته السوداء، هنالك أوراق بيضاء فقط وهي لا تُخفينا، علينا فقط ملأها وتسويدها. علينا أن نُكثِرَ من حمل الورق الأبيض قبل النوم وبعده، وتسويده متى استطعنا ذلك. الناس هم البشر وليسوا طبقة معيّنة، كتابةُ النّاس لا تعني الإنصات لهمومهم فقط، تلك مهمة الأطباء والنقابات والأحزاب والثوّار، الأدب هو الحفر الدائم بحثا عن لغة.



اللغة ليست لا غاية ولا وسيلة. الغاية والوسيلة مصطلحات تنتمي لقاموس رأسمالي يُروّج تحت اسم "التنمية البشرية"، والأدب هو كل شيء ما عدا التنمية البشرية. الأدب ليس أقراصا مهدئة، ولُغته ليست أعشابا مفيدة للمعدة. اللغة هي الأساس، الركن والقاعدة. لا تخضع لا لاعتبارات عرقية أو وطنية أو جهوية أو دينية أو أيًّا كان نوعها. اللغة ليست وسيلة، اللغة هي النَفَسْ، ومن يُهمِل نفسه يخذله وينقطع. مثلما يبني الطيرُ عُشّه ومثلما يصنع النجّار طاولته ومثلما يُطبخ الأكل وتُعشَّقُ الماشينة... تتشكّل اللغة. لا الفولكلور اللغوي العربي يهمّنا ولا التقليب في قواميس الفرنسيس يُبهرنا. أنتَ تكتبُ لنفسك ومنها، لا تكتبُ ضدّ الآخر. الكتابة ليست منافسة. الكتابة موقفٌ وجودي، لكنّه لا يحتاج قاموسًا وجوديًا ليتجسّد.



نحن نؤمن أن الشعر موجود في كل مكان. في لمسة يد وتحت حجرٍ رطب وفوق موج البحر وعلى شاشات الهواتف. لا يحتاج الشعر للتكلّف ولا للتبسيط ولا للغموض المفضوح. على الشاعر أن يجترح لغته من عصره، على الشاعر أن يخلق مادته، يحضّر لغته، يعمل عليها: اللغة عمل.



أكبر خطر يهدّد الأدب يأتي من الدولة. وزاراتها وخُدّامها وبيروقراطييها هم الكهنة الذين يريدون سمّ جسم الأدب. حصرهُ في خانة "الثقافة" يقتله. الأدب ليس تسلية ولا ترفيها ولا امتيازا اجتماعيا ولا "يتناول" أو "يعالج" أي شيء، الأدب ليس جائعا ولا طبيبا. لا يأكل ولا يُشرِّحُ. الأدبُ هو البرق، ولا أحد يُمسك بالبرق إلا واحترق. الدولة تُحارب الأدباء ثم تُقلِّم أظافرهم وتستعيدهم بعد موتهم، تُغذّي ماشينتها الكبرى بالأسماء. احذروا الدولة.



السؤال المهم في الأدب ليس "ماذا" إنّما "كيف"؟ لا تهمّ مساحة خريطتك، لا يهمّ عدد شخصياتك، ولا يهمّ طول نصّك، ولا الجائزة التي ترشّح لها: المهم هو كيف ستحفر هذه الخريطة؟ ماذا ستستخرج منها؟ ماذا ستبني فوقها بعد ذلك. الأدب هو هذا الحفر الدائم، هو دخول المناجم والحفر وراء عروق المعادن. مهنة شاقّة هي مهنة الأديب.



نحن نحتقر الأغبياء ومُدمني الطرق المختصرة والجهلة الذين يلعقون الأحذية الخفيفة والثقيلة، نحن نكره الطوائف والإقصاء، نكرهُ المصاعد ونتمنى تعطّلها. نؤمنُ أن "الشعب" هو اختراع الجماعة الخائفة، لا وجود للشعب (في الصين) كما لا وجود للكوميونيتي (في أمريكا)، كلّها تسميات غبّية لجماعة خائفة في مواجهة الغول الذي يحرس المال بالسلاح.



تسقط ديكتاتورية الرواية، وتحيا الكتابة الهجّالة. من منشورات الفيسبوك إلى الموسوعات الفاخرة، مرورا بكل من وقف على نهج الأدب يسترزق أو يسرق.



يا قراصنة بحر الأدب... شدّوا أشرعتكم





الجزائر

اليوم 28 من الحجر المنزلي
حركة "خارج الحجم"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي