التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ترجمة: الفصل الأول من رواية "مرآة مجنون" لحسان زهّار


نبذة عن الكاتب:
وُلِد حسان فاروق زهّار بقصر البخاري (الجزائر)، سنة 1939. سافر إلى أوروبا سنة 1957، درس بسويسرا وعمل في أكثر من مهنة: صحافي، بارمان، حمّال في محطة لوزان. سافر في أكثر من بلد أوروبي طلبا للمغامرة وبدون مال. عمل بين سنتي 1960 و 1963 كمحرّر في أكثر من راديو وجريدة، ثم التحق بوكالة الأنباء الجزائرية بعد الاستقلال وحتى منتصف الستينات. عاش في باريس ونشر بالفرنسية، لغة كتابته، مجموعة قصصية سنة 1966، ثم روايته الوحيدة مرآة مجنون سنة 1979 عن دار فايار الباريسية، والتي تروي مغامرات سالم، الجزائري في باريس السبعينات. ثم فُقِدَ أثره، حتى سنة 2009، وبعد تواصل مع أخت الكاتب، أعادت منشورات البرزخ (الجزائر) نشر مرآة مجنون؛ ونشرتْ على غلافها سطورا قليلة تقول بأن حسان زهّار تُوفي سنة 2002. نفذَت هذه الطبعة من السوق الجزائرية، وفُقِد أثرُ زهّار مرّة أخرى.

(الطبعة الجزائرية سنة 2009)

                                                    (الطبعة الفرنسية سنة 1979)

الفصل الأول
اعتقلوني مثل لص، أسوأ، مثل مجرم. حشد المتفرجين كان هنا، كأنّما لأجل بروفة عامّة. لا أحد كان يُجبر نفسه: كان يبدو عليهم الرضا والاندهاش.
في مركز الشرطة، بدؤوا يستجوبونني مباشرة. أردت التكلّم فعلا، لا شيء يخرج من فمي، الكلمات كانت تحوم في رأسي. عندما أظن أني اقتربتُ من تشكيل جملة، التمكّن من الكلام، أتلقى صفعة جديدة تجعلني أساءل كل شيء من جديد والكلمات تغادر لرقصة أخرى في رأسي. يدوم التحقيق منذ ساعتين. ينتبهون تدريجيا أن هنالك مشكلة ما.
في الأثناء، يكون برافوس قد اتّصل لكل مكان. لأناس نافذين، لإخراجي من هنا. كيف أبرّر هذا؟ هو أيضا لا يعرف ما هي تهمتي.
أُترَكُ في ركنٍ، دون أن يحاولوا معرفة المزيد. لا أقلق بشأن المصير الذي ينتظرني. أواصل التساؤل كيف استطعت أن أخطئ الحساب لهذه الدرجة: لم يكن هنالك سلمٌ حديدي، لقد تخيّلته فقط ! تصرّفتُ مثل مجنون. هذا التفسير سيفرض نفسه. أشعر أني بخير الآن: محبوس رغما عنّي، هذا هو الأهم. كان عليّ أن أشكّ في أن فعل ذلك بشكل طوعي لن يُفضي إلى شيء، أو بالأحرى سيضعني في نفس الموقف السابق: أكون حرا -مثل الجميع- ولكني أرفض بوعي أو بدونه تحمّل مسؤولية العيش. سيتركونني أغادر ربما، وسأجد نفسي أمام نفس المشكل. ما عدا إذا ما رموني في مستشفى مجانين. أن أخاطر بالظهور كمجنون هو أمر لا يزعجني. لكني لا أريد العيش مع المجانين؛ ليس لأنهم يخيفونني، أو لأني أخاف من العلاجات التي ستفرض عليّ. في مصحّة عقلية، هنالك نظام، والحد الأدنى من تحمّل المسؤولية. وهذا ما لا أريده. لماذا؟ لا يهمني الأمر. في المقابل، عندي فضول لمعرفة ماذا يفكر والداي، ما رأيهما ! في نفسي، غلُظ الحجاب الذي كان يغطي مشاعري نحوهما بسبب الزمن والبُعد. الآن، صار جدارا حقيقيا.
"تعال، سيراك الكوميسار."
يدعوني للجلوس. لا ينظر نحوي، يبحث في أوراقه، منزعجا مثل من يريد إنهاء شيء بسرعة. يشبك يديه أخيرا فوق الطاولة:
"طيب ! لم تفعل شيئا، أنا موافق ! لكنك نزلت من نافذة تقع في الطابق السابع، باستعمال بطانيات ولحافات مربوطة ببعضها. هذا لا يعتبر جُنحة، نظريا. لكن دعنا نفكر قليلا... ألا تجدُ غرابة في هذا التصرف ماذا حصل لك بالضبط؟ تفضّل، أخبرني. هل أنت خائف من أحدهم؟ هل كانوا يتربّصون بك عند المخرج؟ هل هناك من يريد بك شرًا؟
-         سيدي الكوميسار، لا أحد بالتحديد يريد بي شرا. أفهم غرابة موقفي. رغم بساطته، أردت الخروج لكن ليس من الباب...
-         طيب ! طيب ! خاطرت رغم ذلك بتحطيم عظامك، بلعبتك هذه ! ألا تظن بأنّك ستبدو مثل مجنون؟
-         نعم، نعم، بالطبع !
-         و... هذا... ألا يزعجك هذا؟
-         لا ! لا ! بالضبط، بشكل ما، هذا يساعدني. إلاّ إذا...
-         إلاّ إذا ماذا؟
-         هل ترى، أقبل طوعيا بأن أحبس، ولكن بشرط: يتركونني في غرفة لوحدي، ولا يجبروني على شيء.
-         بحق الشيطان ! بهذه الطريقة، أنت متجّه نحو الجنون بثبات.
فقط، لا تبدو مثل أهبل ! أوه نعم ! هذا الصباح عندما اعتُقِلتَ، ولكن لا شيء. فوجِئتَ، دعنا نقول في عز أزمة اكتئاب، لا أكثر. أي أحد في مكانك كان ليتصرّف ويصرخ مثلما فعلت. شعرت، كما يقال، بإهانةٍ عميقة... سنعرضك على الفحص طبعا، لكن يمكنني إخبارك بشيء مؤكد: ليس خطيرا ما يحدث لك. لكن لو واصلت التصرّف كمجنون، ستُحبس للأبد، ولن ينتبه أحد لما تريده أو لما لا تريده، فليدخل هذا الكلام رأسك."
ها هو شيء لم أضعه في الحسبان: صار الأمر مسخرة ! أرى نفسي تقريبا أشرب كأسا مع الكوميسار. النتيجة: عليّ أن أقرّر بنفسي إذا ما كنت مجنونا أم لا ! هذا القرار، أتمنى، لن يؤثر على الطبيب، أو الأطباء (ربما أنا حالة غير عادية: مجنون وغير مجنون بالمرّة) الذين سيفحصونني. لتنفجر الحقيقة !
هنالك شعور يتملكني لكوني لم أُضْرَبْ. في البهو، يسير رجال شرطة ببدلاتهم؛ ألمحُ برافوس أمام شُبّاك، كان يمضي أوراقا. يأخذني الشرطي الذي يرافقني من يدي:
"جاء صديقك لاستلامك، سيأخذك عند طبيب الأمراض النفسية. هيا، واحرص على ألاّ تقوم بحماقات أخرى، لدينا أعمال أخرى نقوم بها."
يستقبلني برافوس من دون مشاعر كبيرة:
"إذا، يا صاحبي، صرتَ أحسن؟
-         على ما يبدو..."
صرنا في الخارج.
"لكن، يا إلهي ! ماذا جرى لك؟ كان من الصعب إخراجك من هنا كان صعبا ! بقي فقط أن يتدخل الوزير الأول. وليس أقل من هذا ! هل تعلم بأنك نحفت فعلا؟ لو كنت قد أخبرتني لكنت تركت لك مالا ! عندك لسان كي تتكلّم، لا؟
-         ليست مسألة أموال. أنا مفلس، نعم، لكنه أمرٌ آخر...
-         إذا، ماذا يحدث؟
-         ماذا تريد أن أقول لك ! سئمتُ، مرّة أخرى، لكن الأمر أخطر من المعتاد.
-         اسمع ! السأم، لدرجة عدم الأكل لمدة أسبوع، يمكن تخيلها ! القفز من أعلى برج إيفل، أو بأي شكل آخر، يمكن تخيّله أيضا ! لكن الشعور بالسأم ولعب دور تارزان على السادسة صباحا، أجد هذا قويا قليلا. هذا يضحكني، لكن صراحة هذا أمر يفوقني.
-         أعترف، أعترف. فكّرت في الانتحار، لكن...
-         لكن ماذا؟ صدقني، كان الإجراءات لتكون أكثر بساطة من كل هذا الزلزال الذي حدث. زِد على ذلك، عليّ أخذك عند طبيب نفسي؛ لقد وقّعتُ، عليك المرور. ألا تجد أنك تقوم بالسينما، كل هذا، لا؟ هيا لنذهب، سالم.
-         نعم، الآن أجد أنّه سينما. لكن وقتها، لم يكن الأمر كذلك.
-         طيب ! الطبيب النفسي، لاحقا. دبّر حالك معه. ما رأيك في نبيذ بورتو جيّد؟ أم أنك لازلت لا تشرب؟ نذهب إلى لا فيلات، ها؟ لا شيء أحسن من ضلع بقرة مشوي لنسيان المشاكل ! لازلت تحب البورغون؟ أنا أيضا. وسنمرّ على المنزل لتحلق ذقنك، قبل الذهاب للطبيب. لا داعي لقول شيء."
بعد بضعة كؤوس، نسينا بأنّ عليّ أن أحلق ذقني. تأخّرنا في لا فيلات، مؤجّلين موعد الذهاب للطبيب بدورات الشراب.
تقفُ السيارة الآن أمام الباب. البورتو، الخمر، الكونياك، يساعدني حتى لا أرفض الخضوع للفحص.
ينساب الطاكسي في شوارع باريس، أنا مرتاح. أشعر بابتسامة ساخرة على شفتي. لم أنسى غرفة برافوس، ولا عمود فوندوم ورغبتي في الذهاب لتفتيش جيوب نابوليون، ولا الزوجان المقابلان اللذان كنت أراقبهما بالمنظار، ولا صرخة البوابة عندما رأتني معلقا في الهواء، ولا الشرطة، لم أنسى شيئا، كل هذا كان البارحة ولكن يبدو لي بعيدا جدا... بدأت أشعر أني بخير خلال الحديث مع الكوميسار، اختفى شعوري بالعار، خرجت من نفسي –لكم من الوقت؟- كما لو أنّ كشفًا عظيما حول معنى الحياة ومصير الكون فرض نفسه عليّ في عُمق الضريح لجعلي، ومن دون نقلة، أرى الماضي بعينٍ جديدة.
إن خرجت من النافذة فذلك لأني خفتُ لقاء برافوس، أيّ برافوس كان، والذي كنت سأغلط في حقّه مرّة أخرى وبشكل أكثر من المعتاد، في تعارض تام مع ما كان يدور في رأسي وقتها. لكني سئمتُ، سئمتُ من اعترافي لنفسي بأني سئمتُ، وأكثر من هذا جعل الأمر مرئيا للآخرين –ولكن أيضا إخفاءه- وللقريبين خاصة لأنّه أمامهم نشعر أننا أقل حرية. يتوغّل الطاكسي في شوارع باريس، محركه الديزل يزمجر على أقصاه. برافوس لا يقول شيئا. ياقة معطفه الكبير مرفوعة، سيجار ضخم بين الأسنان، جفناه نصف مغلقتان، هو غائبٌ فعلا. ملك نفط، أي ثري نسي أن يُغيّر ثيابه بعد قليل من أعمال البستنة لن يبدو أحسن منه الآن.
أعرف برافوس منذ بضع سنوات، من مريام. يعيشان سويا منذ سبع أو ثمان سنوات. التقيتُ مريام في نفس الوقت مع أختها ماريات عندما كنت في الثانوية. دائما ما شعرتُ بأنّي مُنجذِبٌ نحو الصغيرة، ماريات.  مريام تخاتلني كثيرا، يحفر هذا هُوّةً بيننا. عندما أكون معها لا أستطيع الكلام. كنت أقضي وقتي في النهار متظاهرا بالبراءة  ومفاكهة ماريات؛ والليل في استقبال مريام في أحلامي: كنت أرغبها بجنون في نومي، ولكن حتى في الحلم لم أكن أتجرّأ على لمسها: كانت تتحرك بجلال في غرفتي، تقترب من سريري حتى تلمسه، دون أن تنظر نحوي أبدا، متجاهلة، فيما يبدو، لكل طارئ بشري، مبهرة. هكذا كانت تتجوّل في أحلامي، ولكن في الغد، عندما أجد نفسي أمامها، صار مستحيلا عليّ أن أجد الجوّ السحري لأحلامي، كان عليّ أن أعترف لنفسي بأنّها ليست نفس الشخص: خوفا من أن أبدو أمامها غبيا، أن أبقى بفمٍ مُغلق، كنت أحتمي في صحبة ماريات، التي كنت أنجح دائما في جذبها نحو زاوية ما، لأقصّ عليها كل أنواع القصص. كانت مريام ترانا نضحك، أو نتكلّم محرّكين أيدينا. كان مستحيلا عليّ أن أعرف ماذا كانت تشعر تجاهي: أظنّ أنها كانت تحبّ رسائلي، لا أستطيع افتراض ما هو أفضل من هذا.
كنا نرى بعض دون تحديد موعد. غالبا كانتا تمرّان عليّ في البيت. أحيانا، كنت أنتظر طيلة اليوم دون أن تأتيا. كنت أشعر أني أعشق ماريات ولكن عندما كنت أنتظرهما دون جدوى، كنتُ أحقد على مريام، على مريام فقط.
خلال أسفاري، لا أكتب سوى لمريام.
ما أن أجد نفسي بعيدا عنها، أشعر بمتعة غريبة في التحدّث إليها في خيالي. في هذه الأوقات، يمتلئ الفراغ العادي الذي أشعر به في حضورها بمشاعر سعيدة، بحرارة إنسانية، بمناخ فهمٍ لم أشعر به سابقا. قبل وصولي إلى باريس، أعلنت لي مريام في رسالة عن علاقتها ببرافوس: "إنه رسّام، عمره أربعون سنة، هو حبّي، اسمه برافوس. أربعون سنة !" آلمني الأمر لحظتها. ثم تخيّلتُ رجلا طويلا، أشقر، مثل جيمس بوند هادئ لا تشتعل نظرته سوى أمام لوحة. كنت أشاهد في الشارع كل الرجال الذين كانوا تقريبا في تلك السن، كنت أحاول إقناع نفسي بأن هذا أو ذاك، مثير للانتباه بشيء ما فيه، يشبه لبرافوس كأنّه أخوه. لبعض الوقت، عادت مريام لتزورني في منامي. الآن، هي تكلمني، أجدها سعيدة، كانت تقوم بخُطَبٍ طويلة وهي تمشي بالطول والعرض في غرفتي. كانت تشرح لي المسرح، كيف بدأت مسيرتها كممثلة... في نفس الوقت كان تُطمئنني بنجاحها القريب؛ كنت أراها على الخشبة في قاعة ممتلئة عن آخرها، كنت أتشاجر مع بقية المتفرجين حتى لا تضيع عن عيني، بما أنّ الحماسة كانت تحركهم في كل اتجاه. لدرجة أني بدأت لا أفهم لماذا اختارت التمثيل أمام أناس أغبياء لهذه الدرجة، ومبتذلين. وعندما انتهى العرض أخيرا، أسرعت لأشدّ علي يديها، لكن الفوضى كانت تعم الكواليس حدّ أني بالكاد شاهدتها تغادر، ممسكة بذراع رسّامها الذي صفّق له الحشد أيضا. استيقظتُ على هذه الصورة الأخيرة، والتي كانت تدور في النهار أحيانا أمام ناظري، مُجبرة إيّاي على إعادة تركيب منامي، إيجاد انطباع مؤلم: لم أكن أريد الاعتراف بأن مريام خرجت من حياتي للأبد. كنت أتساءل لماذا لم أحاول أبدا أن أجعل منها صديقتي، صاحبتي، زوجتي، بما أنّي أفكّر فيها بكل هذا الوفاء. في أوقاتٍ كهذه، كنت أنسى وجود ماريات. لم أكن أبحث لأشرح لنفسي كيف وأنا أحب الأولى، لا أفكر سوى في الثانية !
أراقب برافوس: ليس أشقر ولا طويلا، نظرته لا تلمع بأيّ شرارة. كتالوني إسباني، أسمر، بشعرٍ مجعّد. لا أستطيع أن أغار منه: هو رجل من نوع لا أعرفه ! عندما ننظر في عينيه جيدا، نشعر بأنّه أحول قليلا. أسنانه سوداء من النيكوتين. ولكنّي لم أر من قبل وجها يُشِعُّ بهذا القدر من الإثارة عندما ينتعش، يمنح شعورا قويا بالحضور، بالصلابة الهادئة. لا أستطيع أن أغار منه، أحبّه كثيرا. أحب طريقته في الكلام، وكيف يُدوِّرُ حروف الـ "R".
ينقص الطاكسي من سرعته في أحد شوارع باريس.
"افتح الزجاج، الرائحة سيئة، سيجارك !
-         لقد وصلنا، لا تنفعل هكذا، وصلنا. سأنتظرك في المقهى. أنا المجانين، يشعرونني بالبرود. أرِهِ أنّك...
-         ماذا؟
-         لا شيء، لا شيء. أراك لاحقا !"
ألم يقل الكوميسار بأنّ الأمر ليس خطيرا ليطمئنني، لأقبل الخضوع للفحص؟ أفضّل لو حبسني وقتها، كنت أعرف على ماذا أتّكئ. ولكنه ليس طبيبا نفسيا، الكوميسار. هل سيقال لي الآن في أيّ مرحلة أنا، أي طريق عليّ اتّباعه؟ المهنة، أعرف، عامل مُهم، قاعدة للحُكم. سيُطلب منّي ماذا أفعل. لا شيء. ماذا أريد أن أفعل؟ أكتُب. فلتكتُب إذا ! ما الذي يمنعني؟ قُلت لنفسي أكثر من مرّة: لو كان عندي إمكانية العيش دون عمل، سأتمكّن من الكتابة. ثم: ليس أكيدا، حاول الكتابة، وأنت تسعى وراء العمل، صفحة أو صفحتين في اليوم، يكفي. خلال سنة ستحصل على خمس مائة صفحة على الأقل. كتابة ماذا؟ الشجاعة، قيل لي، تتعلّق أولا بالذهاب كل صباح للحصول على قوت يومك. أريد فعلا أن أكون شجاعا لكن ليس بهذه الطريقة. على شجاعتي أن تكون كِتابة، ولستُ أملكها. أيضا، هاكَ، وبما أنني مجنون قليلا. أخزّن في داخلي كثيرا، حتى لا أطيق العيش. برافوس عزيز عليّ: يعيش كل يوم كما يستطيع، دون وجع رأس. وهذا لا يمنعه أن يكون ذكيا جدا. الاستبطان لا يزعجه لا في الحديث ولا في النوم. أنا بلى. آه لا ! في الشرب، لا يزعجني أبدا ! منذ وقت طويل، أحببتُ امرأة. لم تكن تحبّني. رغم ذلك، تزوّجتها، صنعت معها ولدًا. ولكنها كانت ميّتة بالنسبة لي.
عندما أجد نفسي في قاعة انتظار، أكتب. أقصد، في رأسي. تنكتِبُ لوحدها، تستحوذ عليّ كُلّيًا، بشكل كامل حتى عندما أجد نفسي الطبيب، طبيب الأسنان... لا أستطيع التعامل معه بجدّية. شيء ما يقول لي بأنّه يمثّل، بأنّه دجّال. الآن، أكتب لقائي بالكوميسار: هذه المرّة أتمكّنُ من أن أشرح له بالضبط لماذا خرجت من النافذة، هو ذكي، يفهمني، يحلو الحديث، نذهب لشرب كأس ونلعب النّرد. تقول صاحبة المكان: "سيدي الكوميسار يفضّل، سيدي الكوميسار هذا وذاك"، ولي: "سيدي المفتّش". السيد المفتّش هو من فاز. أنسى خلال كل هذا لحيتي وملابسي الرثّة. أعطاني برافوس سُترةً، أكبر مني قليلا. هذا ما يلاحظه الرجل أحمر الوجه، المُمّيز، الجالس أمامي. نراقب بعضنا البعض منذ دقائق. أظن أنه يراقبني ويفكّر: "هذا مخبول حقيقي !" يزعجني الأمر، هذه الطريقة التي نترصّد بها بعضنا البعض دون القدرة على فعل شيء آخر ! أتكلّم، محاولا أن أتفحّص الجدران.
"عندك ساعة؟
-         الخامسة مساء، تقريبا. طوّلنا، آه؟
-         -هممم !
-         لكنه يستحق الانتظار. يأتونه من كل مكان، يعالج حتى الملوك ! قوي جدا، وجيّد. لا أعرف رجلا أحسن منه، وأنت؟
-         أنا؟ لا أدري. إنها مرّتي الأولى.
-         آه ! سترى، هو مميّز. ما مشكلتك؟
-         آ... قليل من الاكتئاب، أظن...
-         هو ممتاز بالنسبة للاكتئاب. أنا أيضا، الاكتئاب، ولكن هناك شيء آخر أيضا: خلال الليل –يُقرِّبُ كرسيه قليلا- أفقد المني. نعم، يسيل لوحده ! إذا، في الصباح، أشعر أنّي مُنهك ! لحسن الحظ أنّ هذا لا يحدث بشكل دائم، وإلا ما كنت أستطيع العمل. عندما تسير الأمور بشكل سيء، آتي لرؤيته. حصتان أو ثلاث وهوب !، تصير الفورمةٍ جيّدة، إنّه..."
هنا، تدخل عجوز قصيرة، متكّئة على شابِ وامرأة خمسينية.
"اتركاني، تقول بصعوبة، أستطيع المشي. أنتما تخنقانني."
ينازعان حتى يجلسونها. ينتهيان رغم ذلك بتثبيتها داخل فوتاي. وما أن يتركانها ليجلسا بدورهما، تبدأ في الميل نحو الأمام ولو لم يُسرع الشاب للإمساك بها، كانت ستدقُّ أنفها في السجاد. صرخت المرأة (ابنتها ربما):
"هيا، كامي، لن تعيدي الكرّة الآن. كوني لطيفة، كامي، اعدلي جلستك !
-         قلت لي، تبكي كامي، وعدتماني بأنكما ستأخذانني لرؤية الطبيب اللطيف الذي يعطيني الشوكولاطة، والآن تتركانني هنا لوحدي !"
في هذا الوقت بالذات دقّت الساعة المعلّقة معلنةً الساعة الخامسة. صمت تام. ترفع كامي رأسها، تبتسم، الجميع يراقبها، تتهجّى حرفا بحرف: "تيك تاك الساغة وتكتيك الدركي !"، ثم تذهب في ضحكة بالية لا تريد أن تنتهي. كأنّما ببغاء يصرخ من خلف الباب. ضحكتها حاصرتنا من كل الجهات.
أقفز في مكاني، "المنيوي" يُكلمني أنا من جديد: "تعال إلى نادي الصحافة، تجدني كل مساء هناك، نتعشى سويا".
ينفتح أحد الأبواب، إنّه دوره. يُسرع، كأبله، يترجرجُ مُفرِطًا في الاحترام والتسليم على الدكتور، رجلٌ قصير ومدور ينتظرُ، من دون تعبير، يده على مقبض الباب. في نفس الوقت، ومن الجهة الأخرى للقاعة، تدخل امرأة. لا يلاحظها أحدٌ تقريبًا، ينشغلُ بقية الزبائن المبهورين بهذا الرجل القصير الذي ينتظرون الجلوس أمامه. يحسبُ كل واحد الأشخاص الذين سيمرّون قبله. توجّهت الوافدة الجديدة، ودون أدنى ضجة، بسرعة نحو كرسي من دون مساند للأذرع، كما لو أنها ليس لها الحق سوى في أقل الأماكن راحة. عقدت ساقيها مباشرة، وفتحت جريدة: كتفها الأيسر يرتعش كل عشر ثوانٍ في نفس الوقت الذي يدور فيه رأسها فجأة كما لو أنها تطرد ذبابة صغيرة أزعجتها.
أدُكُّ أنفي في مجلة باري-ماتش منتظرًا وصول دوري.
أبقى واقفًا أمام مكتبه، يقترب ببطء من خلفي، بعد أن أغلق الباب. يضع يده على كتفي:
"تفضّل بالجلوس. أنت السيد...، أليس كذلك؟
-         نعم.
يجلس بدوره.
-         إذا، ما الذي ليس على ما يرام؟
يبدو كأنّهم أطلعوه على الأمر. لا أعرف ماذا أقول.
"إذا..."
دقيقة من الصمت. تترك يده المكتب الذي كانت مُسطّحة عليه، لتُمسك بشيءٍ غريب الشكل لا يشبه أي شيء آخر أعرفه. من خلف نظّاراته، لا تُفارق عيناه عيناي. أبدأ إذا في الكلام، رغمًا عنّي تقريبا:
"... إذا. لألخِّص لك، أظن أني لا أستطيع العيش ولا الانتحار. أنا بين الاثنين. أضجرُ بسرعة مما أقوم به. لا أستطيع تركيز انتباهي على نفس الشيء: ما أن أنطلق في شيء، أقول لنفسي في ذات الوقت: فيما يصلح هذا... لما أكون في غرفتي، أعاني لكوني لستُ في الخارج، برفقة أناس رائعين، ولكنّي لا أعرف أبدا من هم. أنا... أ... ب...
-         واصل.
-         لست بخير في أي مكان. أريد دائما أن أكون في مكان آخر.
-         والآن؟
-         آه ! الآن لا أفكر في ذلك. أقصد، أنا الآن عند الطبيب، ماذا، هذا مختلف. أيضا، أتيت من المائدة، وشربتُ الكثير من الخمر؛ لا، لا أفكر في ذلك، أنا أتحدث عمّا قبل.
-         وعندما تكون مع امرأة؟ عندك صاحبة، أو...
-         أوه ! هنا... في البداية لا بأس، ثم يتدهور الوضع سريعا. اللحظة التي لا أشتهيها فيها تأتي بسرعة. أتحمّلها لبعض الوقت، بضعة أيام ثم...
-         لماذا؟" يسألني، بعنفٍ تقريبًا.
يتقدّم بنصفه العلوي نحوي، مُغيِّرًا الـ"شيء" في يده.
"لأنّي –وقد أكون مخطئا- أجدهنّ غبّيات، تافهات، جدا، يعني، لستُ حرًا..."
يضحك بهدوء، ويقطع هذا تدفق كلامي. أحسّ أنّي أحمَّرُ. ولكن الاحمرار أمامه لا يهم، هو الطبيب ! أستعيد الكلام:
"... لا، أريد أن أقول، تأتي اللحظة التي أشعر فيها بالألم، تُضجرنني، لا يوجد حل بعد ذلك...
-         ماذا تفعل، في حياتك؟
-         لا شيء. في الحقيقة، لا أفعل شيئا.
-         نعم، لكن... يجب على الإنسان أن يأكل !
-         كنت لوقت طويل... طالبًا. ثم صحافيا. فقدتُ عملي منذ سنتين.
-         هل...
-         أكيد، بل الأسوأ هو أنّي أتفطّن لهذا الآن.
في تلك... في تلك الشركة، لم يكن هنالك سوى الأغبياء و... أنا من طُرِدتُ ! ولكني كنت سيئًا جدا في التنقيط. كنت قد فقدتُ والدي. ر... رأيته يموت، هل تفهم، وهذا بالضبط، لم أرد أن أراه يموت، لم أرى شيئا من قبل، أكثر، كيف أقول، أكثر قذارة..."
نظر نحوي على جنب فجأة، ثم:
"بماذا مات؟
-         سرطان الحنجرة، البلعوم. تقيّأ كل ما كان بداخله، عصيدة، عصيدة حمراء-بُنّية؛ في كل مكان العصيدة، كانت تفوح رائحة نتنة في كل مكان، على بُعد أمتار وأمتار، الحيطان أيضا...
-         ووالدتك؟
-         والدتي؟ لازالت حيّة. هي في الجزائر...
-         هل تكتب لها؟
-         لا. هذا... لا. (أضحك) لا، لم تخطر الفكرة على بالي أصلا.
-         ...
-         لا، لا نستطيع الحديث عن العلاقات بيننا. منذ مرض أخي الكبير، صارت... بلهاء قليلة، غائبة. سقط مريضا في حين كان عمري ثلاث سنوات ربما !
-         ماذا أصابه؟
-         هو... مجنون. يعني، هنالك أوقات يكون فيها بخير. أعرف تماما كيف صار مجنونا !
-         آها؟
-         نعم نعم، أو على الأقل أظن. والدي كان صعبًا، خاصة معه. رغم أنه، في الثانوية، كان دائما أحسن واحد في قسمه، في كل مادة. كان ولدا ذكيا أكثر من العادة. الآخرون كانوا يغارون منه و، بما أنه كان... نعم، كان العربي الوحيد في قسمه... عندما كان يأتي إلى المنزل، في عطلة عيد الميلاد وعيد الفصح، والدي كان... يصرخ عليه، يضربه بلا سبب، ومن أجل أي شيء. كان يأخذ كشف نقاطه وينظر فيه باحتقار ويقول له: "هل تعتبر هذا عملا؟ والدي كان يشرب، يشرب كثيرا، الجميع كان ينال قسطه.
-         نعم، الكحول آفة كبرى. لا نستطيع تصوّر الخسائر التي يُسبّبُها !"
(خراء ! هذا كل ما لديه ليقوله، يا له من غبي !)
"حُبِسَ أخي للمرّة الأولى وعمره 14 أو 15 سنة. اليوم عمره 35. صدمات كهربائية و...
-         في المؤتمر الأخير للطب النفسي، تمكّنتُ أخيرا من إلغاء استعمال الصدمات الكهربائية. كان ذلك صعبا، عندي أعداء خطيرين."
(أنا سعيد بمعرفة هذا، رغم الانطباع السيئ الذي بدأت بتسجيله عنه:  خَرِفْ، صار خرِفًا. كلمّني أخي عن الصدمات الكهربائية: "تصرخ، تقفز في الهواء، كهرباء في الرأس. بعدها تصير أحمقا.")
"... أنت شربت أيضا، لا؟
-         لم أعد أشرب. يعني، شربتُ اليوم ولكن هذا استثناء. الظروف... حصلت على غداء ممتاز. ولكني لا أشرب أبدًا.
-         أحسن !... أحسن !"
(لم أعد أسمعه لأنّي لا أستطيع فعل شيء آخر. أشعر برغبة جامحة كي أقوم وأقول له: "روح تخرا، أيها العجوز الغبي، وداعا !"
"نعم توقفت عن الشرب... منذ شهر فقط."
(سابقا كنت أشرب حتى لا أعود قادرا على الوقوف. حصل أنني تقيّأت مباشرة على فتحة مجاري. رغم أنّي أخاف الجرذان جدا. بالنسبة للصدمات الكهربائية، أرفع له القبعة ! عدا هذا، فليعالج الأباطرة أو حتى الرب، سيبقى عجوزا غبيا، عجوزا غبيا بنظارات، لا أكثر. لا أطلب سوى الذهاب من هنا.)
"... سوف أعطيك شيئا، دواء في الصباح، وآخر في المساء. أنقِص من شرب القهوة، اثنان أو ثلاثة في اليوم، لا أكثر. أنقص من التبغ أيضا، كما تعلم. كنت قد بدأت تكوينا في القضاء، أظن. يمكنك المحاولة من جديد، صحيح؟ سأساعدك في هذا... في غضون شهر، إذا ساءت الأمور، عُد لرؤيتي. أو حتى إذا سارت بشكل جيد، تعال، سنثرثر قليلا وذلك جيّد. أنت ذكي، عليك أن تنجح."
آه ! شكرا ! أخيرا، شكرا على كل شيء ! هيا، أيها الأغبياء ! لقد نجونا، الله أكبر، لنُبقي أفواهنا مفتوحة، حتى يُقرّر أن يتغوّط فيها، حتى نُغلقها مرّة وإلى الأبد ! رفض أن أدفع له؟ ماله الذي بقي في جيبي يُشعرني بالعار. هو الآفة، الغرغرينا.
ضيعت ساعتين عند هذا الغبي. أنا سعيد بلقاء برافوس من جديد. مع هذا الطبيب الزبالة، شعرتُ بأنه يسرق منّي جبلي. لا، لست أقول حماقات. رؤية برافوس عند الكونتوار يرتشف من كأس الباستيس، دون أدنى علامة قلق بعد أن انتظرني، أشعر بأن الأرض أُعِيدَتْ تحت قدمي، بعدما سُلِبت منّي في مزحةٍ سيّئة.
"ها أنا ذا، أنهيتُ الجلسة. هؤلاء الناس لا قيمة لهم. مغرورون بأنفسهم، ومتأكدون أنهم متواضعون وخيّرون ! أحتاج للباستيس أنا أيضا: البوّابة، الشرطة، الكوميسار والطبيب النفسي، هذا أكثر من كافٍ بالنسبة لنهار واحد. (لا أترك برافوس يواصل حين يقول، ضاحكًا: "الآن، لقد قمت بدورة حول العالم.") آه لا ! لن أعيد الكرّة مع النافذة. لا نوافذ بعد اليوم ! يجب وضع الآخرين عند الباب، الشرطة عند الباب، الكوميسار، الطبيب النفسي عند الباب: بعدها ستتحرّر المداخل والمخارج، لا خوف من الأرضية المشمّعة للردهات الضيّقة والطويلة، للسلالم المنحنية والعالية، ومن كل المتاهة الجغرافية التي تُشوّش على الفضاء، وتُفضي إلى بُنى وألغام، تستوجب قواقع للذين يريدون (المساكين !) أن يتواجدوا فيها، قواقع ومفصلات، من حديد القضبان، من سجون المجرمين الذين يقتلون عشوائيا لأنهم لا يملكون الوقت، أولئك الذين أشبههم، مع الفارق الوحيد هو كوني لست متأكدا بعد من أني أستطيع القتل، لم أصل بعد لمرحلة لا رجعة فيها، كل شيء يتحرّك في هذا الكون، لماذا على كل شيء هنا أن يكون جامدا، الشوارع نفسها ليس لها معنى. إذا ما فكّرنا في لا جدوى تصميم ترتيب الكون، سننتهي جميعا إلى إثبات أصالة ما لأنفسنا... مُطابقة لرغبة جعل كل خلل مستحيلا. وبما أننا نحب الرفاه، وبما أننا متطلّبين، لا ننظر سوى من حولنا ونشعر بالضجر ونُمَوِّهُ كل هذا بخسائر دون أضرار. الحياة قصيرة، هكذا يقال، والخيال الحَدِّي للموت ليس سوى ذريعة. إذا ما كنت مجنونا، أنا فخور، عالميا سعيد بجنوني. إذا ما كنت مشروطًا بإثارة اضطرابات صغيرة ليس عليّ أن أخاف من صورتها، فهي تنتمي لأولئك الذين يسجّلونها، ولا أن أخاف الطرق المختلفة لتسجيلها. عليّ أن أصرخ بقوة أكبر جنوني، دون عودة، نحو ما يسميه الآخرون بوجوههم التي تشبه الكلاب الذليلة "ماضِيَّ". لأنّ حينها سيكون ماضِيَّ محدودا فقط بالوقت البشري، ومن دون علاقة مع النبض الكوني..."
منذ أن التحقتُ به، لم يقاطعني برافوس. عند هذه الكلمة الأخيرة أتوقّف كما لو أني أخطأت الطريق: نبض كوني. عندي انطباع بأني ذهبتُ بعيدًا، لمحتُ في نظرته وميض سخرية واستهزاء، استنكار حتى. لا، هو منتبه لما أقول.
"على كل حال، سالم، أشعر أن طبيبك ليس غبيا لهذه الدرجة. فيما تقوله الآن، لا أرى فعلا ما الشيء الإيجابي الذي قام به. ألاحظ فقط بأنك لا تريد لعب تارزان من جديد. كأنّما هذا يُشعِرك بخيبة قليلا... أنا متأكد من شيء: عندما لا يكون الواحد مجنونًا، ليس مجنونًا يعني، فهو حزين. أظن أن الجميع يملك بذرة صغيرة. طبعا عندما يكون ضخما، يأخذ كل المكان داخل الرأس. وهذا مزعج ! مزعج لأننا مضطرين كي نعيش أن نحسب حساب الآخرين: لو دفعناهم كثيرا، سيشعرون بأنهم مهدّدون. هم منظّمون منذ وقت بعيد ضد هذا النوع من التهديد. صنعوا آلة القمع: السجون والمستشفيات النفسية، هذا ما نراه، ولكن القمع في كل مكان، أكثر نعومة. عندما نحبس أحدهم، هذا يعني بكل غباء بأننا عاجزون عن حلّ مشكلته. ثمّ، لا أحد يريد حلّ مشاكل الآخرين. ولا لغز في هذا: لو تركنا الجنون يعبّر عن نفسه، لو أن كل شيء يمكن أن ينفجر مرّة واحدة، حتى ينكشف في ضوء النهار، سيوجد دائمًا بعد ذلك، وسط الهلع، وباء الطاعون، قسيس ليُطمئنَ الخائفين، أطباء للعلاج واختراع اللقاحات، أشخاص لاستعمال الاثنين، لإعادة تنظيم القمع، لإدخال القطيع البشري مرّة أخرى للإسطبلات. إذا كنتُ أرسم، وإذا كنتَ أنتَ تكتب، فهذا لأننا لا نملك خيارا، لأننا لا نعرف أين نضع ما هو فائض من بذرتنا، ولكن في العمق، لسنا نخلق أوهاما، لو كان في استطاعتنا لما كتبنا شيئا، ولا رسمنا شيئا، ولا عزفنا الموسيقى بطريقة منتظمة... ربما أبالغ قليلا، لكن، وفي كلمات أقل، من الجيّد المبالغة. الأسهل من هذا، هو التعوّد على البذرة. بالنسبة لي هذا ليس مشكلا، أستعملها مثل قميص. وأنا لا أهتم بالقمصان، بالملابس، بكل شيء، الحياة تسوى أكثر من قميص يوم أحد."
لا أجد شيئا لأقوله، رغم أن شيئا بداخلي يُصِرُّ على الردِّ بكلمة ما، لا أجدها، أبحث في القمصان والملابس... لا شيء لأقوله. أذكر بأنّه في فترة من حياتي، كنت أحب الملابس، وأخرج في بدلات عصماء. الآن... يضحك برافوس حتى يظهر حلقه، أضحك أيضا، لا أضحك من قلبي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي