التخطي إلى المحتوى الرئيسي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر



(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..)

أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.  

يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟ 

يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد. 

يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي. 

كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد. 

فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي شيء.. هنا. اسمح لي، يعني المفروض الإنسان يروح لآلة سحب النقود ولا يسأل نفسه إذا ما كانت ستشتغل أم لا. كيف تريد أن يثق الجزائريون في البطاقات البنكية، نحن البلد الوحيد في العالم ربما الذي لا يملك هذه الخدمة. يقولون أننا نحب لمس النقود بأيدينا، هذا غير صحيح. المشكلة أن المؤسسات غير موثوقة ولا يمكننا تسليمها أموالنا فتعطينا بطاقات مغناطيسية تبتلعها آلات معطّلة. أبقى واقفا أمامه، يوجّه حديثه للجميع، ولكنّه يركّز معي عندما يراني منتبها. طويل وأنيق، دمِث في الكلام، يُتقن الفرنسية والفصحى، ويُبادل بينهما أثناء حديثه، طريقة يُتقنها مزدوجو اللغة في الجزائر. 

 يتكلّم بتأثر يجعلك تتعاطف معه، صوته مُتهدّج قليلا، فتقول لنفسك سأعانقه وأواسيه.. لكنه يضع الكمامة وأنا أيضا، والجميع يخاف أن يظهر بمظهر المستهتر بتعليمات السلامة والتباعد. ولولا شعره الذي غزاه الشيب ولم يترك له سوى خطوطا رمادية لكان نُسخة من الكاتب أمين الزّاوي الذي لازال سوادُ شعره يُقاوِم. 

والزّاوي، عزيزي القارئ، هو "كاتب مُتحسّر وشَكَّاء" من الجزائر. أي أنّه يتحسّر كثيرا على ما مضى. يكتب الزّاوي منذ الثمانينات، هو ربما اليوم في عقده السابع، بدأ يكتب بالعربية ثم انتقل إلى الفرنسية خلال الحرب الأهلية وهروبه إلى فرنسا قبل أن يعود لاحقا، ولازال إلى اليوم ناشطا.. يكتب أعمدة أسبوعية ويُعلّق من خلال صفحته في الفيسبوك (وينشر مع كل تعليق صورة له) ويشارك في نشاطات عربية وأخرى فرنسية، ومنذ عقد من الزمن ينشر كل عام روايتين واحدة بالعربية وأخرى بالفرنسية. أنا كنت ولدا عندما عرفته، في برنامج إذاعي صباحي عن الأدب والفكر. ومنذ ذلك الوقت مازال الزّاوي يتحسّر على المدنية وتراجعها في وجه البدوية، ويستشهد بابن خلدون ويُكثر من الجُمل المركبّة بالفرنسية، تاهَ أمين مع شخصياته المهووسة بنيك الخالات و"زنا المحارم" وأساطير عائلاتها اليهودية-المسلمة المنحدرة من الأندلس والمخطوطات القديمة في أضرحة أولياء صالحين في غرب البلاد، ابتعد الزّاوي مثل رجل يجمع في رمال الصحراء أحجارا ملوّنة وانتهى به الحال بجيوب مثقلة بالأحجار.. لا يعرف كيف يرجع ولا ماذا يفعل بما وجده. 

يتركني صديقي واقفا مع الرجل، ويذهب ليتكلم في الهاتف. يواصل شبيه أمين الزاوي خطبته: 

- يعني سامحني، ربما أنت في عمري ابني.. احنا عندنا ما شفنا من البلاد هذي.. يقترب من أذني قليلا، لكن بمسافة أقصر من المعتاد بين الناس قبل وباء كورونا، ويقول: 

- شفنا خالد نزار رجع البارح، لن نتعجّب لو قالوا لنا مرّة أخرى أنه بطل، أسقطوا عنه كل التّهم.. 

يعود إلى مكانه ويواصل، ولكن بصوت منخفض، فقد صار الحديث بيننا الآن، وما عاد يخصّ آلة سحب النقود المزاجية: 

- أنا أسكن هنا، في حيدرة.. "حي المسؤولين والأغنياء"، وأعرفهم واحدا بواحد، أراهم في حياتهم العادية وليس على التلفزيونات. 

 ينهي صديقي مكالمته ويرجع ليقف معنا. 

يواصل الرجل: 

- اليوم، عندما أرى حال بلادي.. أتحسّر. ما الذي ينقصنا لنصير مثل الدول المتقدّمة؟ عمري ضاع هنا، وعندما أتذكّر ما مضى... في سنة 1994، يعني قبل.... آه... 

- قبل 26 سنة، أقول له. 

- تماما.. ربما أنت كنت طفلا صغيرا وقتها ولا تتذكر. 

- في الحقيقة أنا لا أتذكّر شيئا، لأنها سنة مولدي. 

- سبحان الله... شفت، أنت أصغر من أولادي. 

- ... 

- لكن العمر لا يعني شيئا. 

- طبعا. 

- في تلك السنة... ربما... ضيّعت فرصة حياتي. 

يصمت قليلا ثم يقول: 

- عرضوا عليّ عملا في بواتييه بفرنسا، تعرفها ربما؟ 

ألتفت لصديقي، وأقول: 

- هو عاش في فرنسا، ولكنّه عاد، كل ما أعرفه عن بواتييه أنّها أبعد نقطة وصل إليها المسلمون في غزواتهم لأوروبا.. 

فيضيف صديقي: 

- وهي تشهد مؤخرا عنفا متزايدا للشرطة الفرنسية. عموما، كل فرنسا تشهد تزايد عنف الشرطة، وهناك قانون يحاول البرلمان تمريره، يقضي بتجريم كل من يصوّر الشرطة... 

يقاطع الرجل خطبة صديقي القصيرة عن عنف الشرطة، والتي أفسدت كلامه، ليقول: 

- عموما، في بواتييه عرضوا عليّ عملا وبيتا وسيارة، أولادي كانوا صغارا وبإمكانهم التأقلم مع المجتمع هناك. هل تعلم ماذا قُلت؟ 

- قُلت لا وعُدت إلى هنا، أجبته. 

- تماما... قلت لا وعُدت إلى هنا. رغم الحرب الأهلية والقتل وقتها. قلت لهم أبدا لن أعيش في فرنسا، "النّيف ما يسمحليش". 

يقول الجملة الأخيرة ويُشير إلى أنفه المختفي تحت الكمّامة. 

- ولكني اليوم نادم، كيف تركت تلك الحياة ورجعت إلى هنا، أنا نادم.. 

أقاطعه: 

- هل أنت نادم على النّيف؟ 

يرتبك ويجيبني: 

- لا... يعني أنا نادم على سذاجتي والوطنية التي... 

- لا أنت لم تقل الوطنية، قُلت النّيف وهناك فرق بين النّيف والوطنية.. 

يبتسم الرجل، لا أرى وجهه كاملا، لكنّي أُميّز من عينيه. أكمِل: 

- النّيف شيء... والوطنية شيء آخر، أنا لا أؤمن بالوطنية وأنت لم تذكرها، قُلتَ أنك نادم على النّيف.. 

يجيبني مرتبكا: 

 - كنت صغيرا وربما لا أعرف ماذا أفعل. 

- لكن لماذا كان عندك النّيف؟ هل بينك وبين فرنسا ثأر شخصي أو عائلي، أم فقط لأنها استعمرتنا؟ 

- يعني... نعم، الاستعمار. 

- وهل تغيّر تاريخ الاستعمار اليوم حتى تندم؟ 

أنا لا مشكلة عند في أن يعيش النّاس في فرنسا، لكن أفهم أكثر عندما يقرّرون العيش من عدمه على أساس حُجّة منطقية أكثر من حُجّة الاستعمار التي يبدو أنك لم تعد مقتنعا بها. 

وهنا أتوقّف قليلا لأشرح للقارئ معنى النّيف في العامية عند الجزائريين، الجميع يُدرك المعنى ولكن لا يشرحونه أو لن تجد أحدا يشرحه بدقة. طبعا النّيف هو الأنف، والكل يقول فلان عنده النّيف بمعنى فلان عنده عزّة النّفس. وفي المعاجم العربية، الأُنفة هي عزّة النّفس. ويقال: قومٌ شُمُّ الأنوف بمعنى قومٌ أباة. وربما جاءت هذه المعاني الأنفية كلّها من كون الأنف هو أعلى عضو في جسم الإنسان، وإذا بلغ الماء أنف الإنسان يختنق ويموت. فالأنف أعلى ما في الجسم وأعلى ما في صفحة الوجه، فإذا سقط الإنسان، يفعل ما بوسعه حتى لا يضرب وجهه وأنفه الأرض، ويُقال في العربية: مرّغ فلان أنف علاّن في الأرض، يعني أذلّه. 

لذلك ارتبك مُحدّثي عندما سألته هل يندم على "النّيف" الذي أخذه ورفض المكوث في فرنسا، وفضّل هو أن يقول لي أنّه نادم على وطنيته الساذجة بدل الاعتراف بزلّة لسانه. 

قال لي: 

- كنت أسافر كثيرا وقتها، وكنت أتصوّر أننا سنغيّر الأمور إلى الأفضل. 

سأله صديقي: 

- ماذا كنت تعمل وقتها؟ تسافر كثيرا، وتسكن قريبا من المسؤولين والجنرالات، هل كنت تعمل في الحكومة؟ 

- اااا.... همممم... تردّد الرجل قليلا، ثم قال: - تقدر تقول.. نعم، لكنّي لم أكن مسؤولا، أنا مهندس في تكويني. 

- ربما لذلك يئِست، قال له صديقي، من الصعب أن تُجاور كل تلك الطاقة السلبية وتنجو. 

ظهر الذهول على عيني الرجل. 

فواصل صديقي: - ماذا تقول القصيدة الشعبية؟ تقول.. 

(لا تخدم سلطان ... أصلا ولا تجلس حواله اتيقن واضمن ... اللّي عطاك الله تناله) 

ثم عمّ الصمت. 

أراد الرجل أن يقول شيئا، ثم اعتذر عن ثرثرته، كان رجلا طيّبا رغم شكواه التي لم تنقطع فقلنا له بالعكس، كان حديثا مُثمِرًا، نتمنى لك سنة سعيدة. 

عندما عُدت إلى البيت، تكلّمت مع صديقي بخصوص الرجل وشكواه وندمه على تفويت فرصة الاستقرار في فرنسا، قال صديقي أنه كان يريد أن يُثبت له أننا شباب ونعيش حياة هشّة مقارنة به -ماليا ونفسيا- ولكن عندنا أمل في البلاد، وأنّه هو-أي صديقي- ترك فرنسا لأنّ لا "حياة نابضة" فيها. ساد صمت قصير ثم ضحكنا على كلمة "أمل"، وقُلنا ما معناه: الأمل كمبدأ.. كمبدأ، نعم. 

لاحقا، في السهرة، فتحت معجم "المعاني" على غوغل، وبحثت قليلا عن كلمة الأنفة والأنف وقرابتهما مع النّيف الجزائرية، لأفاجئ –ككل من يُبحِرُ في قاموس لغوي- أنّ من اشتقاقات جذر "أنف"، فعل أنِفَ والذي يعني اشتكى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي