التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لماذا يريدون الوصول إلى المرادية؟

(نُشِر هذا المقال يوم 16 / 3 / 2019)

بعد ثلاثة أسابيع، وبعد الجمعة الرابعة، من الحراك الشعبي المُطالب برحيل نظام الرئيس بوتفليقة، وبعد أن تعوّد الرأي العام على وصفِ طريقة سيرِ المسيرات في العاصمة الجزائر بشكل اختزالي: تنطلق صباحا، يكبر عددها بعد الصلاة، تسير بسلمية وتنتهي مع الساعة الخامسة… وتحدث أعمال عنف « لا دعوة لنا بها ».

لكن ما يُلاحظ هو أن عدم حضور سؤال: ماذا يحدث بعد الساعة الخامسة عصرًا؟ ولماذا تشهدُ الأحياء العلوية أعمال شغب؟ ومع من تصطدم شرطة مكافحة الشغب كل جمعة؟ مع فئة معيّنة من المتظاهرين أم مع من يُسمّونهم بـ « البلطجية »؟

الثابت في هذه الجمعة الرابعة، 15 مارس، هو أن الشرطة تواصل الدفع بنقاط المواجهات إلى أسفل، فبعد أن كان خط المواجهة في أول جُمعتين قريبًا من « المرادية »، صار في آخر جُمعتين في حي تيليملي، أي أنه صار أقرب لوسط المدينة وبعيدًا نِسبِيًا عن مبنى الرئاسة الذي لا يوجد فيه الرئيس.

رمز المرادية

تقول لي فريدة (60 سنة)، متقاعدة، أنّها لا تفهم لماذا صار لقصر المرادية « فجأة » رمزية لدى الجيل الجديد، ولماذا يريدون الوصول إليه. أسألها هل سمعت أغنية « لا كازا دل مرادية »؟ تقول أنها تعرفها بل وردّدتها في المسيرات، لكنها لا تظن أن أغنية يُمكن أن تُفسر كل شيء. لكن الكثيرين يرون العكس، ويقولون أن أغنية مماثلة، والعديد من شعارات الملاعب تُفسّر ارتباط قصر المرادية عند جيلي التسعينات والألفينات كرمزٍ للسلطة.

هنالك أيضًا جُغرافيا مدينة الجزائر، التي بُنِيت فوق جبالٍ صغيرة بجانب البحر، والتي جعلت الأحياء « الراقية » في الأعلى والشعبية –بالإضافة للوسط- في الأسفل. الأمر الذي تأكد لي في الجمعة الثانية، عندما انتهت المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين أمام فندق الجزائر، اقترب مني عددٌ من الشباب والمراهقين ليسألوني عن طريق العودة نحو أحيائهم الشعبية، أو ضواحيهم البعيدة، كانوا تائهين ومن دون بوصلة في أحياء « عالية » منعتهم الجغرافيا وخلفيتهم الاجتماعية من الوصول إليها أو معرفتها من قبل.

ياسين (20 سنة)، طالب تجارة جاء من باب الزوار ليشارك في المسيرة، يقول أنه لا يعنيه الوصول إلى المرادية، يفضل البقاء وسط المدينة تفاديًا للمشاكل، ولأنه يوافق الرأي الذي يقول « لا يجب الاقتراب من مؤسسات الدولة حتى لا تشعر الشرطة بالخطر. » لكنه في نفس الوقت يفهم « رمزية المرادية » ويُذكّرني قائلا: « حتى رجال الشرطة لما خرجوا في مسيرة قبل سنوات –كان ذلك سنة 2014- ذهبوا مباشرة نحو المرادية، واحتجوا في الساحة التي أمام قصر الرئاسة. » هذا صحيح، الجميع يريد أن يصعد إلى المرادية، حتى لو كان الجميع أيضًا يعرف أن الرئيس لا يُقيم هناك.

البلطجية

مثل ياسين، هنالك الكثيرون الذين يرون أن أفضل طريقة للتظاهر هي البقاء في وسط المدينة، ويعتبرون الوصول إلى منطقة قصر الشعب فما فوق فيها استفزاز لرجال الشرطة بل ووقوعٌ في فخ « البلطجية ».

البلطجية، ربما أكثر كلمة نسمعها في قاموس المتظاهرين إلى جانب كلمات مثل: سلمية وبوتفليقة والعصابة… البعض يعتبرهم مأجورين من طرف « النظام »، يختلطون بالمتظاهرين ويهاجمون الشرطة والمدنيين في نفس الوقت. أما بالنسبة للبعض الآخر –مثل جمعيات أحياء وسط الجزائر، الذين نظّموا أنفسهم في شارع ديدوش مراد وساكري كور مثلا للدفاع عن أحيائهم- فالبلطجية هم « العرايا » الذين يأتون من طبقات اجتماعية وأحياء شعبية وفقيرة (أو ما يسميه ماركس بالطبقات الرثّة، الـ lumpen)، وهدفهم الوحيد هو الاشتباك مع الشرطة وتكسير الأملاك.

الاستماع لجهة واحدة يجعلنا نظن أن « كل » المتظاهرين، أو « الشعب » كما تسميه الصحافة، يريدون البقاء بعيدين عن المرادية، لكن الواقع عكس ذلك. في جُمعتي 22 فيفري و 1 مارس، عندما اقتربت من الصفوف الأمامية التي اشتبكت مع الشرطة، سمعتُ العائدين –سواء الجرحى أو أولئك الذين لم ينَل منهم سوى الغاز المسيل للدموع- يُردّدون: « ما تخافوش ما تخافوش، ما تهربوش. » أو: « مازال الجمعة الجاية مازال… »

بين أنستغرام… والواقع


(صورة: ليديا سعيدي)

كل ما يحدث بعد « نهاية المسيرات السلمية » يبقى في الظل، تُسميه الأغلبية أعمال تكسير ونهب وبلطَجَة، ولا نرى منه سوى بعض الصور والفيديوهات التي يُشاركها الناس في المحادثات وليس على جدرانهم بشكل علني مثلما يفعلون مع الصور الجميلة للحراك. بل ويتلقى صحفيون يُغطون الأحداث بالصور والمعلومات رسائل من قبيل: « عليك ألا تُشوّه جمالية وسلمية مظاهراتنا بأحداث معزولة ومُدبّرة مثل هذه، لا تنشر هذه الصور وتجاهلها. » أي أن هنالك دعوة للرقابة بهدف إبراز « الوجه السلمي والحضاري والأنستغرامي للحراك. »

في آخر جُمعتين صارت الاشتباكات تقع على مستوى حي تيليملي، ولم تعُد تمتدّ إلى أعلى من هذا. فمثلًا، في الجمعة الماضية -8 مارس- تناقل مستخدمو فيسبوك فيديو لشابٍ يقفُ في طريق شاحنة شرطة ضخمة، قبل أن تصدمه الشاحنة. كان ذلك على مستوى الدَّوار الذي يقع أمام متحف الآثار القديمة في تيليملي، لكن الأخبار نقلت فقط نهب وسرق هذا المتحف.

أغلبية كبيرة من المواطنين ممن تحدّثت معهم أو قرأت آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء نزلوا إلى الشارع أم لا، ليسوا مع نقل أخبار ما يحدث بعد « الساعة الخامسة »، فقط إذا ما تعلّق الأمر بتكسير أو نهب، لكن الجرحى أو حقيقة الاشتباكات فمن الأفضل حجبها.

ضد الشرطة؟

يرى سمير (37 سنة)، أن الطبقات المتوسطة ومن يعتبرون أنفسهم « أولاد فاميليا » متناقضون في خطابهم بخصوص هذا الحراك الشعبي، لأنّهم خرجوا في البداية وراء الطبقات الرثّة وبشعاراتها المناهضة لعنف الشرطة، وفي البداية كانت الشعارات كلها حول « بشوية بشوية نوصلوا للمرادية »، ومن التناقض أن يتهم « أولاد الفاميليا » من يسمونهم « العرايا » بالبلطجة عندما يصطدمون برجال الشرطة، وفي نفس الوقت يصفقّون على هؤلاء. ويُضيف: « لأن ‘العرايا’ يعيشون عُنف الشرطة يوميًا، في الحي وملاعب كرة القدم وفي كل مكان يذهبون إليه، والحراك الشعبي بالنسبة لهم هو ثورة ضد الظلم والعنف، وهم يعرفون من يضربهم ويسجنهم، وليسوا في المسيرات ليصفقوا على رجال الشرطة عند مرورهم بعد نهاية كل مسيرة. »

بلطجية؟ مخرّبون؟ طبقات رثّة؟ يقول ح. (28 سنة) الذي اقترب من خطوط المواجهات في الجمعة الرابعة، 15 مارس، للقيام بروبرتاج إذاعي: « وصلنا إلى نهاية شارع محمد الخامس، المسيرات كانت تنزلُ كل مرّة، ويبقى بعض الشباب أمام الشاحنات الزرقاء ورجال الشرطة الذين يشكلون حائطًا يسدُّ شارع كريم بلقاسم. كل مرة تصعد مسيرة وتنزل ويبقى منها شوية ناس. بعضهم كان عمره لا يتجاوز 12 سنة. سألت أكثر من شخص لماذا تُريدون الوصول إلى المرادية؟ فأجابوا: ‘لازم الناس اللي الفوق يفهموا، لازم يشوفوا المرادية في مظاهرة.’ فهمتُ أن هذا هو الهدف من تصميم البعض على الوصول إلى المرادية، أن يروا لاحقًا صور الجموع وهي تُحيط بقصر الرئاسة، لم تكن تكفيهم الصور الجميلة والملوّنة للشعب وهو يتظاهر في وسط المدينة. كانوا يريدون إيصال الرسالة كاملةً. »

أما بخصوص بداية الاشتباكات، فيقول ح. : « أنا لم أرَ البلطجية، أي لم أشاهد جماعة تدخل بين المتظاهرين –كانوا على أقصى تقدير 150 شاب- ورجال الشرطة الذين تقدموا ببطء تحت نفق الـ aero-habitat. ثم حي تيليملي لا توجد به أحجار، حصل ذلك بعد مدة عندما بدأ بعض الشباب بتكسير بلاط الرصيف، لكن تكسير بلاطة واحدة يأخذ الكثير من الوقت، في حين أن الشرطي عنده ذخيرة رصاص مطاطي أو قنابل غاز. »

بالنسبة لأمينة (27 سنة)، مصوّرة صحفية، وجدت نفسها وسط اشتباكات الجمعة الرابعة، بتيليملي، قالت أن الشرطة بدأت بتفريق جموع المتظاهرين باستعمال الشاحنات التي سارت ببطء وسط المتظاهرين لتبعدهم، ثم بعد ذلك بدأ ضرب الغاز المسيل للدموع. أمينة تقول أن المتظاهرين لم يكونوا بلطجية ولا طبقات رثة، بل كان هنالك شباب من كل الخلفيات الاجتماعية: « أنا كنت مع مجموعة من مشجعي اتحاد العاصمة يسكون في تيليملي، كانوا يغنون طيلة المظاهرة، ولم يكن في نيّتهم الوصول إلى المرادية، بل وكانوا يرفضون أن يلتحق العرايا بموكبهم الصغير. لكنهم وجدوا نفسهم في وسط الاشتباكات التي تدور في حيّهم. يُمكنني أن أضيف أيضًا أن الشرطة ضربت الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع كانت تريد تفرقة الجموع فقط، لم أشاهد متظاهرًا مصابًا، ووجود بعض النساء جعل المتظاهرين يتراجعون ولا يردون على الشرطة. »

صورة الجزائريين عن أنفسهم

نقاط الخلاف الأساسية التي يمكن استنتاجها من الشهادات وآراء المتظاهرين -أو حتى أولئك الذين لم يتظاهروا-، هي أولا الهدف الذي يُحرّك كل فئة للخروج والتظاهر، وثانيا كيف تتعامل هذه الفئة مع جغرافيا الحراك الشعبي، ولكن أيضا مع عُنف الشرطة (أو هدوئها في بعض الحالات، فالبعض يراه انحيازًا للشارع والبعض الآخر يراقبه بحذر)؛ لكن الأكيد هو أن « الصورة » ترفضُ حتى الآن إدماج المواجهات وأعمال العنف إلى جانب صور المسيرات « المليونية » والعائلات الجميلة والأطفال والشعارات المُبتكرة والمُلوّنة، وهو ما يُعتَبَرُ أمرًا مفهومًا، خاصةً وأن الجزائريين يكتشفون بعضهم البعض حسب رأي بعض الباحثين، ويُعيدون بناء صورتهم عن نفسهم، مما جعل الصورة تُبرز الجمال والتضامن والسلمية قبل أن تنقل المعلومة.

لكن هل ستكون هذه « الصورة » الجديدة للجزائريين عن أنفسهم سببًا آخر لسوء الفهم بينهم، وعدم قبول تغطية المواجهات أو إسقاط حق الصورة والسرد عن الذين وجدوا نفسهم مصادفة أو عن قصد أمام عُنف الشرطة؟ خاصة في وقت تتحدث فيه الصحافة و »الشخصيات البارزة والمؤثرة » في الحراك عن ضرورة تعيين مؤطرين ومتحدثين باسم الحراك. هل ستواصل هذه « الصورة » الجديدة للجزائريين عن أنفسهم، تجاهل لماذا يريد البعض الوصول إلى المرادية حيث يُقيم الملك رمزِيًا، رغم أن الأغنية الرسمية لهذه الصورة هي لا كازا دل مرادية؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي