التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ملاحظات شخصية حول العمل: 2 (العمل في الحراك)


(ملاحظات شخصية حول العمل، هي سلسلة نصوص قصيرة تتأمل في فعل وفكرة "العمل" بناء على تجارب شخصية وجماعية، وتحاول معالجة الأفكار المسبقة وكذا الأوضاع الواقعية لبعض الأعمال والوظائف بالأمس، اليوم وفي المستقبل.)

-         نستكمل في الحلقة الثانية التفكير في قيمة العمل، وبعد مقدّمة شخصية ومختصرة عن العمل، أصل إلى مسألة أوسع ألا وهي العمل وعلاقاته بانتفاضة شعبية كالحراك في الجزائر. نحاول طرح أسئلة حول: طبيعة عمل جزء من جمهور الحراك، وهل عُنِي الحراك بمسألة العمل، وهل وصل الحراك إلى أماكن العمل، ولماذا فشل المتظاهرون في تحقيق الإضرابات العامة والعصيان المدني الذي لطالما رفعوه كشعار تصعيدي.



عندما انطلق حراك 22 فيفري 2019، كان الناس يمضون في أعمالهم ومشاغلهم، كحالهم في أغلب الأوقات... أوقات الركود الذي يسمى "استقرارا". ثم حصلت الثورة. البعض كان ينتظرها، والبعض الآخر بوغِتَ بحدوثها. خطف الحراك انتباه ونظر الحكّام والمحكومين، ولا زال إلى اليوم، حتى ونحن وسط وباء وإجراءات حجر صحي.

كنتُ محظوظا لأن عملي كصحافي كان يقضي بتتبّع "الحدث" وتغطيته، فكنت في الشارع منذ أول يوم... بسبب ومن دون سبب. ولنقل أنّي كنت أنتظر لحظة "الشارع" هذه منذ سنوات، ولم أكن أعرف أنها ستحصل، أو أنّي سأعيشها. لكن، وأنا في الجامعة، كنت أتخيّلها مع أصدقاء بعضهم سافر –لاحقا وقبل الحراك- إلى أوروبا بحثا عن "عمل"، وبعضهم التحق لـ"العمل" في مؤسسات عليا للدولة ولم يتمكنوا بالتالي من المشاركة في المظاهرات (مثل مئات آلاف الموظفين الإداريين في الجزائر الرافضين للتغيير في أغلبهم)، وبهذا بقيتُ –تقريبًا- الوحيد من بين أصدقاء الجامعة من مكّنه عمله من أن يكون متواجدًا بدوامٍ كامل في مسيرات الحراك.

ومسألة نوع العمل هذه مهمّة، ليس لأنّها تسمح لك –أو لا- بحضور المسيرات، فالمسيرات الكبرى موعدها يوم عطلة الأسبوع: الجمعة؛ بل لأنّها –أي مسألة نوع العمل- ستساعدنا لاحقا على معرفة مدى وصول مياه الحراك إلى القطاعات المهنية. وأيضا لأنّ جمهور الحراك رفع مطالبه (منذ أول شعار: "كليتو البلاد يا السرّاقين") في قالبٍ غير مسبوق في تاريخ الاحتجاجات في الجزائر واضعاً الاجتماعي في قلب الشعارات وكأنّه يقول "الصوصيال هو السياسة"، قافِزًا بذلك فوق تبريرات السلطة القائلة بأن "الشعب مطالبه اجتماعية وفقط ولا علاقة لها بالحكم والنظام". مع الحراك الشعبي فهم الكثيرون أن تحقيق الرفاه والعمل وضرورة الدفاع عن حقوق العمال والمواطنين عموما، ليس مسألة فرعية يستطيع تسويتها نظام عاجز عن التفكير أبعد من معارك وصراعات العصب داخله.

إذا، كان هناك من يحضر المسيرات بحكم عمله، أو لأنّ عمله يوجد في وسط المدينة، خاصة أن هناك مسيرات وسط الأسبوع منها واحد ثابتة يوم الثلاثاء، يقودها الطلبة ويجتمع فيها مئات السابِلَة والمتقاعدين والذين نزلوا لوسط العاصمة لقضاء أشغالهم وتلاميذ الثانويات... وهناك من لا يستطيع الحضور بسبب انشغاله بالعمل طيلة الأسبوع أو لأنه يعمل خمسة أيام فقط ويفضّل استغلال الجمعة في الراحة أو الفسحة. رغم أنّ الشرطة والدرك أغلقوا طيلة عامٍ كامل المنافذ والطرقات إلى العاصمة بل وقبلها بعشرات الكيلومترات، مُعطّلين بذلك حركة السير بل وشلّها طيلة يوم الجمعة، وفي بعض المرّات حتى الخميس، فلا يستطيع النّاس الوصول من طرف الولاية إلى طرف آخر، حتى لو كانوا قاصدين غير الحراك.

وهنا نسأل، هل ذهب الحراك إلى هؤلاء الذين لا يزورونه؟ هل تحرّك جمهور الحراك خارج المسيرات؟ هل وُلِدت نقابات جديدة مثلا؟ أو أيضا: لماذا لم يتمكّن جمهور الحراك، كل في قطاعه وعمله، من أن يوفي بوعده ويحقّق إضرابات عامّة وعصيانا مدنيا؟ فبعد أن استحوذ الحراك على "اقتصاد الانتباه" كانت الخطوة التالية هي أن يُعطّل ما تبّقى من "اقتصاد الإنتاج" في بلدٍ ريعي.

سأتحدث عن الحراك العاصمة أولا وأعود لمسألة العصيان المدني لاحقا، بما أنني شهدتُ ما حصل فيها. تقول صديقة تعيش على أطراف المدينة الجنوبية، قُرب الطريق الوطني رقم 1. لو لم يكُن أول ثلاثاء للطلبة، عندما خرجوا من جامعاتهم نحو الطريق السريع لما التقت والدتي التي لا تخرج من الحي تقريبا بالحراك. لكن بعد ذلك الثلاثاء صار الطلبة يلتقون في وسط المدينة.

أما بالنسبة لمسيرات الجمعة، فبعد جمعات أولى نجح فيها المتظاهرون في الوصول قليلا للأحياء العالية قاصدين قصر الرئاسة، اقتصر الأمر على مسار محدّد وثابت يأتي من شرق وغرب المدينة ويصبّ في الوسط. فكانت حركةُ الحراك محدودة، ومقتصرة دائما على مركز المركز ولم تمتدّ للضواحي. فهل امتدّت هذه الحركة إلى داخل أماكن العمل؟

الجواب: نعم. بل ونقول أنّ أكثر قِطاعٍ مسّه الحراك وجعله يعمل بلا هوادة، هو قطاع الأمن، والشرطة خصوصا. ونأسفُ لعدم وجود صحافة تُعنى بنقل ما دار وسط صفوف هذا القطاع، واكتفى المواطن الجزائري بالقصص المتناقلة عمّا يُفكّر أبناء الطبقات الشعبية، الذين يحضرون كل المسيرات من على الضفّة الثانية لنهر الاحتجاج، بخصوص الحراك وظروف عملهم.

امتدّ الحراك لداخل أماكن العمل فجعل البعض ينطلق في عمله أكثر، مثل الصحافي (قلّة قليلة للأسف) وبائع المياه المعدنية، وجعل آخرين يخسرون تجارتهم خوفا على محلاّتهم من التكسير، ولأن الكثير من الزبائن والمستهلكين رفعوا رجلهم عن شوارع وسط العاصمة، بعدما دبّت فيها حركة جديدة وبعدما تحوّل كل شارع إلى مشروع مظاهرة. البعض فقدَ عمله والبعض الآخر ازدهرت أشغاله، وهناك من وقفَ مثلي موقف المتفرج قبل أن يتشجّع ويترك منصب عمله الهش لأنّه لم يستطع أن يجعل من هذه الهبّة الشعبية مادة إعلامية للاستهلاك السريع، وأراد أن يتأنّى في الفهم قبل الكتابة.

وخلال عملي وتغطيتي للحراك ذهبتُ لزيارة إضراب عمّالي في شركة وطنية للأشغال العمومية. تقع الشركة في أقصى شرق العاصمة، وسط منطقة صناعية مقفرة، وعندما وصلت ذات صباح ربيعي مع زميلة صحافية كانوا قد دعوها لتغطية وقفتهم، وجدناهم جماعة صغيرة من النّاس يقفون في وجه الإدارة والوشاة.

لكن دعونا نرجع للقائهم بالزميلة. كان الأول من ماي، وكان عيد العمال. في ذلك اليوم –والذي وقع وسط الأسبوع ولكنّه كان يوم عطلة- لم ينزل جمهور الحراك في مسيرةٍ "عمّالية" تنفض الغبار عن الرابط المفترض بين كل حركة احتجاجية وبين العمل والعمّال. زميلتي ذهبت إلى مقر المركزية النقابية التي عجز الحراك عن اختراقها وإسقاط رأسها عبد المجيد سيدي السعيد، لتجِد بعض عشرات العمّال والنقابيين المتظاهرين أمام البوابة الحديدية المحمية برجال الشرطة وببلطجية المركزية النقابية التي أدارت ظهرها للعمّال منذ سنين طويلة، وصارت تتجوّل عند أقدام موائد أرباب العمل.

قالت لي الزميلة، التي كان معها بعض النقابيين والمناضلين اليساريين الذي يشكّلون قوام المربّع الاحتجاجي "الأحمر" وسط مسيرات الحراك والذين رفعوا دائما شعارات تخصّ العمل و"الزوالية" (علينا العودة لهذه المصطلحات التي في رأيي تُخندق العمل في أماكن يصعب علينا التعاطي معها وتفكيكها وتركيبها من جديد) وحاولوا توثيق التجاوزات والاحتجاجات في صفحاتهم؛ قالت زميلتي أنّها ذُهِلت لقلّة أعداد المتظاهرين، وتساءلت لماذا لم يُكلِّف النّاس نفسهم للنزول يومها. فيما قالت لي صديقة أخرى حضرت وقفة بعض النقابيين على درج البريد المركزي يومها: شعرت أنه لا يوجد عُمّال في الجزائر. لتضيف: "وأنّه رغم رفع شعارات تُعنى بالحق في العمل والرفاه إلاّ أن التوجّه العام لجمهور الحراك لم يكن قريبا من فكرة الدفاع عن حق المواطن العامل." المهم، وفي وقفة المركزية النقابية، اقترب بعض الأشخاص، رجال ونساء، من الزميلة وسألوها إذا ما كانت صحافية، فأجابت بنعم، فقصّوا عليها قصّتهم.

القصّة التي سمعتها عند وصولنا هي أنّ عمال شركة "سوناطرو"، التي صنعت فخر قطاع الأشغال العمومية في جزائر الأمس، بيعَ عتادها بالدينار الرمزي خلال تسعينات القرن الماضي وأعطيت أسواقها لرجال الأوليغارشية الناشئة مثل علي حداد وتدهورت قيمتها وصُفِّيَ عدد كبير من عمالها، واستحوذ على إدارتها عُصبة من المرتشين والفاسدين. أما العمال الباقون فهم تحت رحمة هذه الإدارة، فالقدامى منهم حالتهم يرثى لها ويتقاضون شهريات بائسة بعد أربعة عقود من العمل. والعمال الجُدد هم غير مرسّمون ويتقاضون فُتاتًا أيضا. ويسود في المؤسسة جوٌ من الوشاية والقوادة والاستقواء بالقانون على العامل العاري حتى من حقوقه البسيطة. وفوق كل هذا تُوفّي الرجل الوحيد الذي كان يدافع عن العمال، النقابي فضيل منصوري (54 سنة) توقف قلبه بعد اجتماع بمجلس الإدارة وتوفي في ساعته. وكان هذا النقابي قد عاد من "منفاه" في الجنوب الجزائري حيث أبعِد بعد تلفيق قضية في حقه، وبعد طرده من النقابة، وبعد تحطيم حياته، عاد متشجّعًا بالحراك الذي هزّ أركان مؤسسات الدولة... ولم ينتفض جزء من العمال إلاّ بعد موته.

القصّة طويلة، ككل القصص، لكنها انتهت –وبعد أشهر من الإضرابات والتهديدات- بتغيير المدير وحاشيته وحلّ النقابة، وبداية رحلة طويلة، شهدتُ فيها شخصيا –وصحافيان آخران كانا الوحيدان اللذان استجابا لنداء العمّال- ولادة النقابي داخل العامل مهضوم الحق. هؤلاء العمال الذين التقيتهم، لاحقا، أكثر من مرّة يسيرون في مسيرات الجمعة مع أولادهم. فيخبرونني بالمستجدّات وبانتظارهم للجمعية الأولى للنقابة الجديدة... وهكذا.

طبعا هذا مثال من عشرات الأمثلة التي وقعت داخل شركات عمومية بالدرجة الأولى، لعمال وموظفين حاولوا تغيير الأمور داخل مؤسساتهم وشركاتهم، لكنهم لم ينجحوا فعلا. هذا لأنّ البنية التحتية للحركات الاحتجاجية من نقابات وجمعيات حقوقية وأفراد قادرين على خوض معارك "التضامن الاجتماعي والسياسي" وكل النسيج الذي يكوّن مجتمع مدني قوي، كل هذا تمّ محاربته طيلة العشرين سنة التي حكم فيها بوتفليقة (ومن قبل أيضا). تجريف وتخريب تام وشامل بيدٍ وتوزيع الريع باليد الأخرى لإسكات الأفواه والبطون. زِد على هذا ممارسات البوليس السياسي المتواصلة، فمن أين تأتيك حركات نقابية وعمّالية؟ أو باختصار من أين يخرج لك مواطنون منظّمون يدافعون عن أنفسهم وعن أبسط حقوقهم؟ هذه أمور لا تسقط من السماء، تماما كما لا يسقط الإضراب العام والعصيان المدني من السماء. وهذه أسئلة أساسية كان على جمهور الحراك أن يضيّع فيها وقته بدل أسئلة "تأطير أم تنظيم؟" أو "تمثيل أم تعيين؟".

لنتخيّل الحراك نهر هادِر ومياهه قوية، تنزل في شلال ضخم، ويمكن استغلال هذه المياه في تحرير الطاقة بتوزيعها في قنوات وتوربينات، لإنتاج الكهرباء والري والتخزين والشرب إلخ هذه البنية التحتية التي تتوزّع عليها قوة المياه... هي تماما ما كان ينقص، وطبعا يمكننا تعديد أسباب النقصان إلى ما لا نهاية بين ثنائية قمع البوليس السياسي وخنق الحريات من جهة وتوزيع فتات الريع من جهة أخرى. ولكن أيضا، ولأنّ هذه هي الحال عبر العديد من الأمثلة التاريخية في بلدان العالم، ولأنّ الطبيعة تهوى التغيير –ليس دائما نحو الأفضل- ولكنّه عادتها... علينا أيضا القول بأنّه يتعيّن على الأطراف، التي تريد أن تبني هذه البُنى التحتية، خلق خيال جديد لتخرج من حالة الركود ولا تعتمد على مياه النهر القوية التي حتى عندما وصلت إلى أبوابها لم تستطع استغلالها. هذا لأن قوّة الحراك قد لا تكون دائما في الموعد، وحتى يصل موعدها القادم –ورغم التضييق على الحريات والاعتقالات التي يعشيها الجزائريون اليوم، والتي تطال أول من تطال الحراكيين المنظّمين من نقابيين ونشطاء- على جمهور الحراك خلق واستلهام خيالٍ جديد للحراك ولفكرة التنظّيم في إطار العمل والقطاعات المهنية. والعمل هنا هو الجواب الأول، من مناصب العمل والوظيفة، من الممارسة التي تستأثر بأكبر حصة من يوم الإنسان، من هناك على الجزائريين خلق خيال جديد للدفاع عن حقوقهم ولتنظيم أنفسهم محافظين على الصيرورة الثورية.

وهذا بالنسبة للجمهور العامل... ماذا عمّن جعلوا من الحراك عملا لهم؟ وهنا لا أستعمل نفس لغة أبواق السلطة التي تتهمّ كل من ينادي بحقه بأنّه "عميل"، يقبض أموالا لينزل للتظاهر، وتعتبر المواطن الهادئ الناعم –سواء صاحب الامتيازات الاجتماعية أم من شرب مياه البروبغندا- هو المواطن الشريف. بل أتكلّم عن عشرات المواطنين  الذين التقيتهم (والملايين الذين لم ألتقيهم) وهم يا إمّا في حال بطالة أم في يعملون في "النْوار"، أي خارج كل حماية اجتماعية ومن دون ضمانات. خلال تغطيتي والذين سجّلتُ شهاداتهم في مقالاتي. أتذكر مثلا عُمر (33 سنة) ماستر لغة انجليزية، بطّال، والذي أخبرني أنّ الحراك هو أمله الوحيد في إصلاح حال البلاد وربما يستطيع بعدها إيجاد منصب أستاذ لغة انجليزية في إكمالية أو ثانوية هذا كل طموحه. أو هناك أيضا شاب ثاني س.، في أواخر عشريناته، تخلّى عن مشروع الهجرة غير الشرعية ورمى بكل عزيمته وآماله في الحراك. س. اليوم يتواجد في السجن بتهمة إهانة جهات سيادية. أو ماسينيسا (26 سنة) الذي يملك طاولة في سوق أسبوعي ببومعطي، والذي يريد تسوية أحواله والحصول على أوراق لطاولته، وكان مقتنعا بأن المشكل أكبر من طاولته ولذلك هو في الشارع. هؤلاء الذين جعلوا من الحراك عملا واستثمروا صحتهم النفسية والبدنية فيه، هم أكثر من نشطوا على مستواهم المحلّي، في الأحياء والمدن الصغيرة، وساروا وسط غابة الذئاب بوجوه مكشوفة محاولين النضال ولا شيء يحميهم.

وفي نهاية هذه الحلقة، أريد العودة بسرعة إلى نقطة مهمة ذكرتها دون شرح وسأعود لها لاحقا، ألا وهي نقطة نجاح الحراك في شيء مهم وهو "اقتصاد الانتباه"، خاصة في بلد لا اقتصاد إنتاج فيه، ويعتاش على الريع. الحراك إذا نجح في الاستحواذ على اقتصاد الانتباه لمدّة 15 شهراً، واقتصاد الانتباه وإن كان شيئا مختلفا كما تعرّفه الرأسمالية العليا اليوم من عمل جبّار لآلات الصحافة والأخبار والتسلية الالكترونية من أفلام وخدمات وألعاب إلخ إلا أنّه في بلادنا، هنالك اقتصاد انتباه مُعطّل –مثل كل شيء- تستحوذ الدولة عبر شبكاتها الإعلامية على حصة الأسد فيه، ولا يشذّ عن خطّها سوى الحوادث التافهة والمثيرة للقلاقل. هذه الشبكة التي أسّس عليها النظام اقتصاد الانتباه مسحها الحراك بضربة قويّة، واستحوذ عليها –بنقاشاته الجيّدة وجدله العقيم مرّات- استحواذا كاملا. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة اقتصاد الانتباه في زمن الحراك، ولاحقا في زمن الوباء، وأيضا عن طبيعة العمل الذي تعرضه السوق الجزائرية اليوم.... (يتبع)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي