(ملاحظات شخصية حول العمل، هي سلسلة نصوص قصيرة تتأمل في فعل وفكرة "العمل" بناء على تجارب شخصية وجماعية، وتحاول معالجة الأفكار المسبقة وكذا الأوضاع الواقعية لبعض الأعمال والوظائف بالأمس، اليوم وفي المستقبل.)
قبل أن أخوض
تجاربي –القليلة نسبيا- في العمل، كان كل تفكيري بخصوص "العمل" يتعلّقُ
بما يُمكن تسميته شروط تحسين العبودية وليس إعادة مُساءلتها، ربما لأنّي لم أختبِر
نفسي تحت ضغوطات ونجاحات ومشاكل "العمل"، وبالتالي لم تخطر على بالي فكرة
مساءلة العمل نفسه، كأكثر نشاط
يُضيّع فيه الإنسان هبرةَ سنين عمره.
لم أنتظم في عمل
واحد، بعد نهاية دراستي الجامعية، لأكثر من ستة أشهر متواصلة. عملتُ كبائع كُتب في
مكتبة ثم كصحافي ديسك، أي ذلك الصحافي الذي يجلسُ في المكتب أكثر ما يجلس مع
النّاس. وفي الحالتين ظلّ وضعي القانوني مُعلّقا: لا تأمين اجتماعي ولا راتب شهري
أستلمه من البنك أو البريد، بل داخل ظرفٍ أبيض صغير، كأنّما ربّ العمل يُسلّمني
رسالة.
وقبل كل هذا
عملتُ، وأنا طالب، داخل مساحة لعبِ أطفال في مركزٍ تجاري. عملتُ بالسّاعة عندما
يغيبُ أحد العمّال، الذين كانت مُهمّتهم تتمثّل في حراسة الأطفال وهم يلعبون
والتدخل لمساعدتهم. تجربة المركز التجاري كانت أول لقاء بالعمل، كمنظومة يدخلها
المراهقون ليتحوّلوا إلى راشدين. وواحدة من آخر المراحل التي يقلّدون فيها الكبار
قبل أن يصيروا منهم. لكن طبعا، طبيعة العمل وبيئته ومردوده المالي، كل هذا كان
مؤقتا بالنسبة لطالب جامعي يرى المستقبل مفتوحا أمامه.
لكن كل هذا الطابع
"المؤقت" للوظيفة لم يمنع عنّي التأثر بما رأيته هناك، رغم أني كنت
"عابرًا" إلاّ أن حال البنات والأولاد –زملائي العاملين وقتها- استوقفني
طويلا، ودفعني لدخول نقاشات كثيرة معهم ولاحقا لكتابة أكثر من قصيدة عن تلك
التجربة. كان المركز التجاري يبتلع حياتهم كلهم، قوّة عملهم، تركيزهم، علاقاتهم
الاجتماعية، وبالمقابل يرمي لهم بالقليل من المال... يعود ليبتلعه في مشترياتهم من
محلات الملابس والأكل.
في الجزائر، وفي
محيط طبقة الموظفين الوسطى التي كبِرتُ فيها، هنالك ديانة اسمها
"الدولة". يدرس الولد ثم يدخل الجامعة، ويستفيد في كل هذه الرحلة من
مجانية التعليم –بما فيها من مشاكل وعيوب- ثم يُسلِّم نفسه للخدمة العسكرية حيث
يقضي سنة يتدرّب ويحمي البلاد، وبعدها –وبقليل أو كثير من الحظ- يجد عملاً، ويا
حبذا لو كان عند الدولة... أي في الوظيف العمومي.
لماذا الدولة؟
لأنّ الدولة باختصار تتكفّل بك وبتأمينك الاجتماعي والصحّي وتمنحك راتبا شهريا
وتؤمِّنُ لك تقاعدك، قد لا يكون عاليا، لكن الرواتب ليست عالية في الجزائر عموما،
بما أن الدولة تملك السوق والبلاد والعملة والبنوك وتتحكّم في كل شيء، ولا ينفذ من
يدها سوى حفنة من الناس وشركاتهم وشبكاتهم، وليس الجميع محظوظا أو فاسِدًا ليعمل
معهم. وبالمقابل؟ تأخذ الدولة، أو الوظيف العمومي، أهم سنين عمرك، وينخرُ عظامك
وشرايينك بالأمراض المزمنة، التي تدفعك للتخبّط بين المستشفيات العمومية رديئة
الخدمة والمستشفيات الخاصة الغشّاشة والغالية... وفي كل الأحوال، لا أنت ولا
الطبيب ولا أي موظف عمومي آخر قادرين فعلا على تحسين وضعكم وظروف عملكم ولا النضال
من أجل ذلك.
طبعا لم يكن
الحال، في هذي البلاد، دائما هكذا... فقد دخلت الجزائر المستقلة إلى هذا العالم
بسقف أحلام مرتفع قليلا، وكانت هناك اشتراكية ولجان تسيير ذاتي في الزراعة، ومصانع
ينعم فيها العمال بشيء من الحقوق، وطلبة يتطوعون في الريف وحركات تحرّر وفهود سود
وجسدُ فرانتز فانون مسجّى تحت ظلال الزيتونة... ولكن كما يقول مانيفستو جماعة
شعرية مغمورة في مكسيك السبعينات: "حلمنا باليوتوبيا واستيقظنا ونحن
نصرخ".
لم أعِش لا بداية
ولا نهاية هذه الفترة، جئتُ متأخرا. وطبعا لم ألتحق بالوظيف العمومي، وفضّلتُ أن
أصير بائع كُتِب في مكتبة متهالكة في وسط المدينة، قبل أن أترك المحل بسبب سوء
تفاهم مع المالك. ثم جرّبتُ يدي في الترجمة، وعُدتُ لكتابة المقالات والنصوص، التي
يدفع أصحابها مبالغ هزيلة، تأخذ شهورا حتى تصلني من بيروت غالبا. وبقيتُ أنتظر.
في ذلك الوقت
بدأتُ أقرأ لمفكرين وكُتّاب يهجون العمل، ويدعون لترك الوظائف. أكثرهم إقناعا كان
ألبير قصيري، الروائي المصري ذي الحرف الفرنسي، حين قال: "أكتب لكي لا يذهب من
يقرؤني اليوم إلى العمل في الغد". وطبعا ارتبطت فكرة ترك العمل بالكسل. ثم
جاء آخرون مثل غي ديبور، جنرال المواقفيين الأمميين، وصاحب "مجتمع
الاستعراض"، والذي خطّ على جدران باريس عبارته: "لا تعملوا أبدًا".
وعندما بحثتُ في حياة الرجلين، وجدت أن قصيري عاش في الكفاف طيلة عمره، من الأرباح
القليلة التي تُدرّها كتبه، في حين أن غي ديبور وقبل أن تصير له أرباح في آخر
حياته، عاش عُمره بجيبٍ تملأه الحبيبات والصاحبات بالمصروف.
وكل مرة، شعرتُ
عبر هذه المحطات القليلة التي عبرتها بالاغتراب. لا أنا أنتمي لعمّال المركز التجاري،
ولا أنا أريد أن أخضع لأوامر مالك مكتبة يحتقرُ الكتاب، ولا أنا –طبعا- أريد أن
أصير صحفيا بصفة كوميونتي ماناجر يهتمُّ باللايكات والكليك أكثر من المقالات
نفسها. دفعني هذا للتفكير في ضرورة العمل نفسه. فكرة أن ترهن جسدك 8 ساعات يوميا،
وطبعا بقية وقتِ صحوك بما أن كل أعمالنا المعاصرة صارت مرتبطة بشبكات التواصل
الاجتماعي التي نعيش فيها بالتوازي، هذه الفكرة أرهقتني طيلة شهور، لكني بدأت أستسلم
أمام "طمأنينة" الراتب الشهري، طارِدًا عن رأسي فكرة تقول "لو
استثمرت وقتك كله في الترجمة والكتابة ستربح نفس المبلغ ولن تضطر للعيش في قلق
الضغط والاتصالات والإيميلات المفاجئة".
ثم جاء الحراك
الشعبي في بداية 2019، وجعل للعمل الصحافي معنى –لبضعة شهور- ما لبث أن بهُت مع
تعاظم الطموحات وعُلُو موجة القصص والأحداث التي تفجّرت فجأة في مقابل تواضع ظروف الشغل
وطموح ربّ العمل... فتركتُ مكاني واستقلتُ. استيقظتُ ذات صباح ولم أذهب إلى العمل،
وكُنتُ سعيدًا. الحراك، أو لنُسمّه ثورة، الثورة إذا خلّصتني من أوهام كثيرة ومن
بينها وهم العمل والثبات... التوازن فوق بيضة حتى... حتى ماذا؟ لا أحد يدري.
الثورة ضغطت على زر "رستارت" للبلد كله، وأنا قبِلتُ بهذا. تخلّيتُ عن
الراتب الشهري وتدبّرت أمري كفريلانسر، بين الصحافة والترجمة... والقراءة... (يُتبع)
بداية هائلة .. اتطلع للمزيد
ردحذف