التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ترجمة: تأملات عن الطاعون - جورجيو أجامبن


حذّر الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبن، منذ 26 فيفري، حول إرساء حالة الطوارئ المُبرَّرَة بتهديد فيروس كورونا، في مقال له نُشر بجريدة المانيفستو. أما نصّه الأخير الذي ظهر على موقع Quodlibet فيُساءِلُ دور العلم في صناعة (الدينية) قبول إجراءات الحجر المنزلي. هل تقترب الحيوانات البشرية، بعد إحساسها بأنها مريضة بالطاعون، من خطرٍ أكبر، ولكنّه سياسي هذه المرّة؟


                      منمنمة للواسطي - دفن ميت بالطاعون - مقامات الحريري

التأملات التالية لا تخصّ الوباء، ولكن ما يُمكننا فهمه من ردود الأفعال التي يُثيره عند البشر. يتعلّق الأمر إذا بالتفكير في السهولة التي تقبّل بها مجتمع كامل الشعور بأنّه مريض بالطاعون، الانعزال في المنزل وتعليق الظروف العادية لحياته، علاقات العمل، والصداقة، والغرام، وحتى قناعاته الدينية والسياسية. لماذا لم تحصل، كما كان مُتصوَّرًا رغم ذلك وكما يحدث عادة في حالة مماثلة، مظاهرات ومعارضات؟ الفرضية التي أودّ طرحها، هي أنّه، وبشكل ما، ورغم أنها قد تظهر غير عقلانية، إلا أن الطاعون كان هنا طوال الوقت، ذلك أنّ ظروف حياة الإنسان وصلت لدرجة لا تُطاق، تماما مثل طاعون. وهذا، نوعا ما، يُشكّل المعطى الإيجابي الوحيد الذي يُمكن استخلاصه من الحالة التي نعيشها: من الممكن، لاحقا، أن الناس سيبدؤون في التساؤل إذا ما كان نمط حياتهم السابق هو الأصح.

ومما يجب التفكير فيه هو الحاجة للدين والتي جعلها ما نعيشه تظهر للعيان. ونجد الدليل في الخُطب التي تقرعنا بها وسائل الإعلام: المصطلحات المأخوذة من القاموس الأخرَوي الذي، لوصف الظاهرة، يستعمل بهوس، خاصة في الصحافة الأمريكية، كلمة "القيامة" ويستدعي، غالبا بشكل واضح: نهاية العالم. كما لو أنّ الحاجة الدينية، التي لم تعد الكنيسة قادرة على إشباعها، صارت تبحث مُتحسّسة مكانا آخر لتسكنه فتجده فيما صار اليوم دين العصر: العلم. هذا الأخير، مثل كل دين، يُمكنه أن يُنتج الخرافة والخوف أو، على الأقل، أن يُستخدَمَ لنشرهما. لم نشهد أبدا عرضا نموذجيا للأديان في وقت الأزمات كما نشهده اليوم: آراء ووصفات مختلفة ومتناقضة، تبدأ من موقف الأقلية الهرطوقية (رغم أنها ممثلة بعلماء مرموقين) النافي لخطورة الظاهرة وحتى الخطاب الأرثوذكسي السائد الذي يؤكّد على الخطورة ولكنّه يتباين بحدّة بخصوص الطريقة التي يجب اتبّاعها للمواجهة. و، كما هو الحال دائما، ينجح بعض الخبراء أو أشباه الخبراء في كسب ودّ السلطان، الذي، وكما في وقت الحروب الدينية التي فرّقت المسيحية، ينحاز لتيّار ما على حسب مصالحه الخاصة ويفرض شروطه.

شيء آخر يدعو للتفكير ألا وهو الانهيار الأكيد لكل قناعة وإيمان مشتركين. كأن البشر ما عادوا يؤمنون بشيء – سوى الوجود البيولوجي العاري والذي يجب إنقاذه بأي ثمن. ولكن على قاعدة الخوف من فقدان الحياة، لا يمكننا بناء شيء سوى الاستبداد، ليفياثان وحشي يُشهر سيفه.

لذلك – وما أن يُعلن عن انتهاء الطارئ، الطاعون، هذا إذا ما انتهى- لا أظن بأنّه، وبالنسبة لمن احتفظ بشيء بأقل قدر من التبصّر والوضوح، سيكون ممكنا العودة إلى الحياة السابقة. وهنا يكمن مربط فرس اليأس، حتى لو، كما قيل من قبل، "لذاك الوحيد الذي فقدَ الرجاء سيُمنحُ الرجاء".



أنجزت هذه الترجمة عن الترجمة الفرنسية، لموقع لاندي ماتان، التي أنجزتها فلورنس باليك عن النص الأصلي بالإيطالية والذي نُشر في موقع Quodlibet، يوم 27 مارس 2020.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا نبقى في الجزائر؟ لماذا نترك الجزائر؟ وحوارات أخرى

  يوميات سبتمبر/ خريف 2021 - منذ قرون واليأس يوصف كمرض، ولمداواته كان الأطباء يصفون السفر كعلاج، وحسب ما نراه في بلدنا خلال الأشهر الأخيرة من هجرة متزايدة نظامية وغير نظامية، ولأن الأغلبية الساحقة لا تستطيع السفر، لأسباب تتعلق بمحدودية التحرك لدى شعوب الجنوب من جهة وبسبب الدخل الفردي المنخفض من جهة ثانية.. فإن الناس تختار المنفى. "اليأس مرض، يُمكن مداواته بالسفر، ولأن السفر ليس في متناول اليد، يختار الجزائريون المنفى الطوعي". منذ أسابيع وأنا أودّع صديقات وأصدقاء، حتى أنّ هذه الفترة من انقلاب الصيف إلى خريف صارت تُعرف في حياة الواحد "بموسم الهجرة نحو الشمال". سؤال يتكرّر حتى ما عاد يُسمع "وأنت متى تُغادر؟"، كنتُ قد طوّرتُ مع صديق -منذ سنوات- سلسلة أجوبة على السؤال، نسوقها للراغبين في السماع، لماذا لا نُهاجر.. احترفنا الجواب على هذا السؤال حتى ما صار له معنى. ثم كُن حريصا وأنت تُجيب فهناك هجرة الولد وهجرة البنت، والجزائر التي تنزف الآلاف من بناتها كل عام ليست تساعدهن على المعيش فيها، فإن سُقتَ أسبابك -وأنت الرجل- تأكد أنها لن تكون مُقنعة، أو على الأقل بعضها،

بيان حركة "خارج الحجم" حول الأدب والتماسف الاجتماعي

                                                             (خريطة الإدريسي)                                                                      أولوية الجغرافيا على التاريخ. أولوية الخريطة على الشهادة. هذا هو مفتاحنا. على تضاريس الجغرافيا نفرشُ نصوصنا وقصصنا، ونمدّ ونشُدُّ جملنا ونختبرها. التاريخ هو مصران هذا العالم وكل ما يدخله يخرج خراءً أو غازات. اتركوا التاريخ وافتحوا عيونكم وآذانكم على الجغرافيا. الخرائط تمتّد في الأرض والأجساد والحكايات والأصوات، الخرائط هي الماضي والحاضر والمستقبل، من المدن للصحراء مرورا بسلاسل الجبال. القصّة هي خريطة تبحثُ عن مفتاحها، على الكاتب أن يفكّ مفاتيح الخرائط ويكتبها. بدل تضييع وقته في لعب دور قاضي الموتى ضدّ موتى آخرين. على الأرض، وفوق الصخور، يعيش البشر. وليس في الحملات التوعوية لمصالح الأمن ولا في كتب التاريخ المدرسي ولا في نشرات الأخبار الرسمية ولا في المذكرات التاريخية الرديئة، التي تُصدرها دور النشر الرديئة التي ترضع من الرّيع، في نفس الوقت الذي تطمح فيه أن تُعوِّض الرواية الرسمية. لا نُعوِّض التاريخ الانقلابي بتاريخ انقلابي

النّيف: قصّة قصيرة عن الشكوى والكرامة في الجزائر

(كُتِبت هذه القصة الواقعية في ديسمبر 2020 بعد نزع الكمامة وتعليقها بمقبض النافذة وتعقيم اليدين بالكحول..) أقف أمام الصرّاف الآلي لمركز بريد بلدية حيدرة، في أعالي العاصمة، ومن حولي يقف مواطنون في عمر التقاعد، ننظر جميعنا إلى الرجل الذي ابتلع الصرّاف الآلي بطاقته.    يسأله أحدنا: هل هناك مشكلة؟ ربما لا يوجد مال داخل الصرّاف؟  يُشير الرجل إلى الذي سبقه، يقول أنّ الآلة ابتلعت بطاقته أيضا، رغم أنهما لم يخطآ في الرقم السرّي، والبطاقة لم تنته صلاحيتها بعد.  يبدأ أحد الواقفين في الكلام والتذمّر، يردّد كلمات عن "العجب"، يقول أننا صرنا نتعجّب من تعجّبنا. يغمغم النّاس من حولي.  كنت مع صديقي، ننتظر كلانا أن نسحب مالا. نقول أننا لن نخاطر، ونعرض على المرأة التي خلفنا التقدّم إذا ما أرادت. بدت أنها مستعجلة وبلا نقود، فقرّرت المخاطرة. في حين دخل الضحيتان إلى مركز البريد، لاسترجاع بطاقتيهما المستقرتان في البطن الحديدي للآلة. تنجح المرأة في سحب النقود فنتشجع أنا وصديقي ونلحق بها، فنسحب نقودنا وسط حيرة الجميع. أرجع للرجل المشتكي، كان ينتظر دوره لدخول مركز البريد.  فيواصل: - لم نعد نتعجّب من أي